الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 27 مايو 2024 - 19 ذو القعدة 1445هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (165) دعوة غيَّرت وجه الأرض (12)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة الثالثة عشرة:

مسألة الجعل لأفعال العباد متواترة في القرآن، تواترًا يجزم كل مؤمن بالقرآن بثبوتها، فيلزمه أن يقر ويؤمن بهذه المنزلة من منازل الإيمان بالقَدَر، وهي خلق الله لأفعال العباد، فالله جعلهم يفعلون أفعالهم بإرادتهم وقدرتهم التي خلقها الله لهم، وعلى هذه الإرادة والقدرة منهم، ثم فعلهم لأفعالهم بها يحاسبهم الله عليها خيرها وشرها، فسبق مشيئة الله وقدرته على أفعالهم وخلقه لها لا يعني سلب إرادتهم وإلغاءها، ولا إلغاء قدرتهم؛ فهي موجودة ومؤثرة في الأفعال وإن لم تكن مطلقة، ولا أنها مستقلة بالتأثير، وليست خالقة موجودة، وليس تأثير إرادتهم وقدرتهم على سبيل الشركة مع إرادة الله وقدرته، ولا بدلًا منها، بل لا موجب إلا إرادة الله، ولكن لإرادتهم أثر لجعل الله لها مؤثرة، فمسألة أثر بين مؤثرين التي قال المتكلمون عنها: إنها مستحيلة إلا على سبيل الشركة والبدل، فكلامهم باطل.

والذي عليه أهل الإيمان: أنه يوجد أثر بين مؤثرين أحدهما أثر للآخر؛ فإرادة الله مؤثرة، والله جعل إرادة العباد لها أثر في أفعالهم، فالله الذي جعل هذا المؤثر مؤثرًا فيما أثَّر فيه، فهذه المسألة من أخطر المسائل التي تؤدي إلى الانحراف في قضية القضاء والقدر.

ومن هذه الأدلة المتواترة في القرآن على جعل العباد فاعلين، وخلقه لأفعالهم: قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌رَبُّكَ ‌لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(البقرة: 30)، فهذه الآية دليل صريح على أن هذا الجعل المتعلق بفساد مَن يفسد، وسفك الدماء ممن يسفكها، هو بقَدَر الله -سبحانه- وجعله، وهو -سبحانه- يعلم من الحِكَم والمصالح في وجود هذا الفساد وسفك الدماء ما لا يعلمه الملائكة، وذلك وجود النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، والعلماء العاملين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والدُّعَاة إلى الخير، والمجاهدين في سبيل الله، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، والزُّهَّاد والعُبَّاد، وغيرهم ممَّن أحب الله وجودهم، ولا يمكن أن توجد هذه الصفات إلا بوجود أضدادها من الشرك والكفر والمعاصي.

ومن هذه الأدلة قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا(البقرة:125)، فما يجده العباد المؤمنون في قلوبهم من الشوق إلى بيت الله الحرام، والرغبة في الرجوع إليه كلما بعدوا عنه، هو مِن جعل الله لذلك في قلوبهم برحمته لهم؛ حتى يقدموا على بيته حجاجًا ومعتمرين، ويكونون فيه طائفين قائمين، راكعين ساجدين، عاكفين.

ومن ذلك قوله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ ‌أَنْ ‌يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(الأنعام: 125)، فشرحه -سبحانه وتعالى- صدر المؤمن بفضله ورحمته، نص في قدرته على خلق الهداية والانشراح للإسلام في صدر المؤمن، فالعبد انشرح صدره للإسلام والله شرحه، وأما الكافر فضاق صدره للإسلام حتى كان كالشجرة الحرجة التي بين الأشجار لا يوصل لها، فهو قد ضاق صدره وحرج أن يدخل قلبه الإسلام، والله هو الذي جعله ضيقًا كذلك، كأنه يكلَّف الصعود في السماء ولا يقدر.

ومن ذلك قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ ‌لَكُمْ ‌فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(الأنفال: 29)، فالفرقان هو الذي يفرِّقون به بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، والإيمان والكفر، والهداية والضلال، والخير والشر؛ فهذا الفرقان قد جَعَله الله في قلوبهم، وهم قد فرَّقوه، وهو -عز وجل- هداهم لما اختلف الناس فيه من الحق بإذنه، وقد جعل الله خلقه لهذا الفرقان في قلوبهم جزاءً لهم على تقواهم، وهي علم وعمل؛ فمَن اتقى الله جعل الله له فرقانًا، ومن اهتدى زاده الله هدى، ومن عمل بطاعة الله وفَّقه الله للمزيد من الطاعة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.