الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 27 مايو 2024 - 19 ذو القعدة 1445هـ

الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (2)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

ثُمَّ تَبَدَّلَ الحالُ، وصار الأستاذُ محمود شاكر يَعشَقُ اللغةَ العربيّةَ بعد أنْ كان يَكرَهُها كُرْهًا شديدًا.

وذلك بَعْدَ أنْ تَعَرَّفَ على مجموعةٍ مِن الشَّبابِ في سِنِّ السَّادسةَ عشرةَ والسَّابعةَ عشرةَ، مِن طلبةِ الأزهرِ وكُلِّيَّةِ الحُقُوقِ وغيرها، وقد كانوا يُلْقُونَ الخُطَبَ في الجامِعِ الأزهرِ في أيَّامِ الثَّورة، وكان بعضُهم يَتردَّد على بيتِ والدِه الشَّيخ محمد شاكر.

وكان هؤلاء الشَّبابُ يَحفظُونَ الشِّعْرَ ويَتناشَدُونَه، والأستاذُ محمود يَستَمِعُ إليهم ولا يُلقِي لهم بالًا، لِكراهتِه لِلُّغَةِ العربيّةِ كما ذَكَرْنَا آنفًا.

وفي يومٍ مِن الأيّامِ كان الأستاذُ محمود يَحْضُرُ مع إخْوَتِه مَجْلِسًا في رِوَاقِ السُّنَّارِيَّةِ بالْجَامِعِ الأزهر، وهو رِوَاقٌ خاصٌّ بالطُّلَّابِ الوافدين مِن إقليم سُنَّار في السُّودان، وكان هذا المجلس في غُرفةِ الأستاذِ الشَّيخِ محمد نُور الحَسَن (1889 - 1971)، الذي صار فيما بَعْدُ وكيلًا لِلْجَامِعِ الأزهر؛ وقد قال الشَّيخِ محمد نُور الحَسَن في مُذكِّراتِه: (وعندما قامت الثَّوْرَةُ المِصْرِيَّةُ بزعامةِ سعد باشا زغلول ضِدَّ الإنجليز كانت غُرْفَتِي في رِوَاقِ السُّنَّارِيَّةِ في الأزهرِ مَرْكَزًا لِقِيَادَةِ الثَّوْرَةِ في الأزهرِ الشَّرِيف)، وكانوا يقرؤون في هذا المجلسِ في ديوان المُتَنَبِّي، وكان هذا الاسْمُ جديدًا على أُذُنِ الأستاذِ محمود.

وكان لِلأستاذِ محمود قريبٌ عنده نُسْخَةٌ مِن ديوان المُتَنَبِّي الذي سمع شِعْرَهُ في مجلس السُّنَّارِيَّة، وكان على النُّسْخَةِ شَرْحُ الأديبِ الشَّاعِرِ اللُّبْنانِيِّ ناصيف اليازجي (1800 - 1871)، وكانت نُسْخَةً جميلةً مَضْبُوطَةً مُعْجَمَةً إعجامًا كاملًا.

وكان قريبُه كثيرَ اللَّهْوِ، فطَلَبَ مِن الأستاذِ محمود أنْ يَسْأَلَ عمَّتَه -التي هي أُمُّ الأستاذِ محمود- أنْ تُعطِيَه شيئًا مِن المال، فوافق الأستاذُ محمود، لكن بشرط أنْ يَأخُذَ منه ديوانَ المُتَنَبِّي، فوافق قريبُه.

فَعَكَفَ الأستاذُ محمود على الدِّيوان، وكان في السَّنَةِ الرَّابعةِ الابتدائيةِ، لِدَرَجَةِ أنّه كان يَدْخُلُ به الحَمَّامَ، فَحَفِظَهُ مِن أَوَّلِهِ إلى آخِرِه.

فَانْقَلَبَ الحالُ، وحَدَثَتْ رَدَّةُ فِعْلٍ عنيفةٌ مِن الأستاذِ محمود شاكر، فَبَعْدَ أنْ كان يَكْرَهُ اللُّغةَ العربيّةَ كُرْهًا شديدًا أصبح بَعْدَ قراءةِ ديوانِ المُتَنَبِّي يُحِبُّهَا حُبًّا شديدًا، وبَعْدَ أنْ كان أضعفَ طالبٍ في المدرسةِ في اللُّغةِ العربيّةِ وأقوى طالبٍ في المَوَادِّ الأخرى أصبح أقوى طالبٍ في اللُّغَةِ العربيّة، وقد قرأ ديوانَ البارودي في نفس العام أيضًا؛ فقد كان يَقرأُ الشِّعْرَ دون أنْ يَفْهَمَ مَعَانِيَه.

وظَلَّ الأستاذُ محمود يُتابِعُ حِفْظَ الشِّعْرِ وقراءةَ الكُتُب، فقرأ في السَّنةِ الأولى مِن الثَّانويّةِ كتابَ "لسان العرب" لابن منظور -ت 711- مِن أوَّلِه إلى آخِرِه.

وكان قد دَخَلَ القِسْمَ العِلْمِيَّ مِن الثَّانويّةِ العامَّةِ لِحُبِّهِ لِمادَّةِ الرِّياضيّات.

وصار يُحِبُّ اللغةَ والأدبَ حُبًّا جَمًّا بعد تَوسُّعِ قراءاتِه في هذا الباب، وبخاصَّة مِن سنة 1921 إلى سنة 1925 م، فقد قرأ على كِبَارِ شُيُوخِ اللُّغةِ والأدبِ في هذا الوقت، مِثْلَ الشَّيخ سيِّد بن علي المَرْصَفِي، أستاذِه وأستاذِ أستاذَيْه طه حسين (1889 - 1973) وأحمد حسن الزَّيَّات (1885 - 1968) (صاحب مجلّة الرِّسالة).

فقد قرأ على شيخِه المَرْصَفِي كتابَ "الكامل في اللغة والأدب" للمُبرِّد -ت 285-، وكتابَ "ديوان الحماسة" لأبي تمّام -ت 231-، وجزءًا مِن كتابِ "الأمالي" لأبي عليٍّ القالي -ت 356-.

وفي الوقتِ الذي نال فيه شهادةَ البكالوريا (الثَّانويّة العامَّة) صَدَرَ مَرْسُومٌ (11 مارس 1925 م) بقانونِ إنشاءِ الجامعةِ الحكوميّةِ باسمِ الجامعةِ المِصْريَّةِ، وتَكَوَّنَتْ مِن أَرْبَعِ كُلِّيَّاتٍ، هي الآدَابُ، والعُلُومُ، والطِّبُّ، والحُقُوقُ، وفي العام نَفْسِهِ ضُمَّتْ مدرسةُ الصيدلةِ لِكُلِّيَّةِ الطِّبّ.

ووقتَها بَدَأَ التَّحَوُّلُ الكاملُ لِلأستاذِ محمود شاكر في شُعُورِه نَحْوَ عُلُومِ الرِّياضيّاتِ والجامعاتِ التي تَتْبَعُها مِن طِبٍّ وهندسةٍ وغيرِها، وشَعَرَ بأنّه لا يَصْلُحُ لها ولا يُرِيدُها.

والتحق بِكُلِّيَّةِ الآداب، وكان أَوَّلَ مَن يلتحق بِكُلِّيَّةِ الآدابِ مِن القِسْمِ العِلْمِيِّ في البكالوريا، وكان هذا بفضل الله أَوَّلًا ثُمَّ بفضل الدُّكتور طه حسين، وبعضِ الأساتذةِ الكبار أمثال المُفكِّرِ الأديبِ الأستاذِ مصطفى عبد الرَّازق (1885 - 1947) (شَغَلَ مَنْصِبَ شيخِ الجامعِ الأزهر، كما أنّه تَولَّى وزارةَ الأوقافِ ثمانيَ مرَّات، وكان أَوَّلَ أزهريٍّ يَتولَّاها)؛ لأنَّهم كانوا يَعْرِفُونَ الأستاذَ محمود شاكر، ويَعْرِفُونَ اشتغالَه الكاملَ بقراءةِ ودراسةِ الأدب.

وفي التحاقِه بِكُلِّيَّةِ الآدابِ قِصَّةٌ، ستكون بدايةَ حديثِنا في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

والحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.