الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 27 مايو 2024 - 19 ذو القعدة 1445هـ

الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (1)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فَأَفْضَلُ ما أَفْتَتِحُ به هذا الصَّالُونَ الأَدَبِيَّ هو ما كَتَبَهُ علّامةُ العربيّةِ أحمدُ فارس الشِّدياق (1804 - 1887) في تقديمِه الطبعة الأولى مِن "لسان العرب"، في أواخر القرن التّاسع عشر؛ إذ قال: "وبَعْدُ؛ فقد اتَّفَقَتْ آراءُ الأمم، العرب منهم والعجم، الذين مارسوا اللغات ودروا ما فيها مِن الفُنُون والحِكَم، وأساليبِ التَّعبيرِ عن كُلِّ معنًى يجري على اللسان والقَلَم، على أنّ لُغَةَ العربِ أوسَعُها وأسنَعُها، وأخلَصُها وأنصَعُها، وأشرَفُها وأفضَلُها، وآصَلُها وأكمَلُها؛ وذلك لِغزارةِ مَوادِّها واضْطِرادِ اشتقاقِها، وسَرادةِ جُوادِها واتِّحادِ انتساقِها... ممّا لا تَجِدُ له في غيرها مِن لُغَاتِ العجمِ شبيهًا" (انتهى).

وفي بدايةِ هذا الصَّالُونِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ حديثُنا عن شَيْخِ العربيّةِ وعُقَابِها الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله-، لا سيَّما وأنّه تُوجَد محاولاتٌ كثيرةٌ الآن لتغييب هؤلاء الأفذاذ، الذين كان لهم دَوْرٌ بارزٌ في حمايةِ تُرَاثِ الأُمَّةِ وثَغْرِهَا الفِكْريّ.

ولَم تَكُنْ طريقةُ الحفاظِ على تُرَاثِ الأُمَّةِ وثقافتِها طريقةً اخترعها الأستاذُ محمود شاكر، بل هي طريقةُ علماءِ الأُمَّةِ مِن يومِ أنْ نَزَلَ فيها الوَحْي؛ فالأصلُ هو الحِفَاظُ على تُرَاثِ الأُمَّةِ وثقافتِها، والطَّارئُ هو البُعْدُ عن هذا التُّرَاثِ وعن هذه الثَّقَافَة؛ فكان الأستاذ محمود شاكر امتدادًا لِجِيلِ العُظَمَاءِ المُرابِطِينَ على هذا الثَّغْر.

ولا أَجِدُ في ذلك أَفْضَلَ ممّا وَصَفَهُ به الأديبُ المُفَكِّرُ فتحي رضوان (1911 - 1988م) إذ قال: "كان محمود شاكر مُرابِطًا على ثَغْرِ الأُمَّةِ الفِكْرِيّ"؛ فقد كان الأستاذ محمود شاكر مِن أهمِّ مَن واجهوا العاصفةَ الفاجرةَ التي تُسمَّى بالتَّحديث والتَّنوير -وهي في الأصل عاصفةُ التَّدمير والتَّخريب-، ومِن أهمِّ كُتُبِه في ذلك: كتاب "أباطيل وأسمار"، وكتاب "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"؛ وسنتناولُهما بالدِّراسة والتَّحليل عند الكلام عن مُؤلَّفَاتِه -إن شاء الله-.

وقد وصفتُه بعُقَابِ العربيّةِ مُقلِّدًا في ذلك تلميذَه الشَّاعرَ الأستاذَ الدُّكتور أبا همّام عبد اللطيف عبد الحليم (1945 - 2014)، وكان أبو همّام -رحمه الله- أستاذًا في كُليّة دار العلوم بجامعة القاهرة.

وقد وَصَفَهُ أبو همّام بذلك لأن العُقَابَ مَلِكُ الطُّيُور، والعِقَابُ: المَرَاقِي الصَّعْبةُ مِن الجبالِ؛ فقد قال إبراهيمُ عبد القادر المازني (1889 - 1949) في "ديوانه":

يَطِيرُ كُلُّ صَدًى عَنْ كُلِّ شَاهِقَةٍ                كَمَا تَطِيرُ عَنِ الْعِقْبَانِ عِقْبَانُ

ونَبْدَأُ رِحْلَتَنا مع الأستاذِ محمود شاكر بِذِكْرِ ترجمةٍ له -رحمه الله-:

هو محمود بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، مِن أسرة أبي عَلْيَاء مِن أشراف جِرْجَا بصعيد مصر، وينتهي نسبُه إلى الحسين بن عليّ -رضي الله عنهما-.

وُلِدَ في الإسكندريّة، في ليلة عاشوراء الاثنين عاشر المحرم لسنة 1327 للهجرة، الموافق أول فبراير لسنة 1909 الميلادية.

وانتقل إلى القاهرة في صيف عام 1909م، بعد تعيين والده الشيخ محمد شاكر -رحمه الله- وكيلًا لِلْجامع الأزهر.

والتحق بمدرسة والدة أمِّ عبّاس بالصَّلِيبة بالقاهرة في سنة 1916م، وكان النظام الذي تسير عليه المدارس وقتها هو نظام دوجلاس دنلوب، ودوجلاس دنلوب (1861 - 1937) هو مُبشِّر اسكتلنديّ، عيَّنَه اللورد كرومر عام 1890م مستشارًا لوزارة المعارف لفرض التَّعليم الاستعماري.

وكان مِن أثر الدِّراسة في هذه المدارس وبهذا النظام على الأستاذ محمود شاكر أنه كَرِهَ اللغةَ العربيّةَ كُرْهًا شديدًا، مع أنّه قد نشأ في بيتِ عِلْمٍ وشِعْرٍ وفصاحةٍ وديانةٍ؛ فقد كان لنظام دنلوب الأثرُ السَّلْبِيُّ الكبير على كُلِّ شابٍّ مِصريٍّ درس بهذا النِّظام، مِن جهة احتقار اللغةِ العربيّةِ ومُعَلِّمِيها.

وبعد ثورة 1919م انتقل إلى مدرسة القِرَبِيَّة بدَرْب الجَمَامِيز، لِقُرْبِها مِن بيتِه، وكان يَتَرَدَّدُ على بيتِ والدِه العلماءُ والمُفكِّرون، والوزراءُ والمُثقَّفون، وكثيرٌ مِن الشَّباب، ومِن أمثال هؤلاء: الرَّافِعِي، والمَازِنِي، وكِبارُ رجالِ صحيفتَي: الأهرامِ والمُقطَّمِ، وكانتا أشهرَ صحيفتَين في ذلك الوقت.

ومع هذا فلَم يُؤثِّر هذا الجَوُّ الخَصْبُ مِن المعرفةِ والثَّقافةِ في ترغيبِ الأستاذ محمود شاكر في اللغةِ العربيّةِ، إذْ كان لِنظامِ دنلوب أثرٌ سلبيٌّ عليه فاق هذا الأثَرَ الإيجابيَّ النَّاتجَ عن مجالسِ العِلْمِ والمعرفةِ التي كانت تُعقَد في بيتِ والدِه، ولكنْ كان لهذه المجالس أثرٌ في نُمُوِّ فِكْرِه وثقافتِه بصورةٍ عامّة، لا سيَّما بعد قيام ثورة 1919م، التي مَنَحَتْهُ حُرِّيَّةً في الذِّهابِ إلى الجامع الأزهر في هذه السِّنِّ المُبكِّرة، كي يستمع لِلخُطَبِ التي كانت تُلْقَى في ظِلِّ هذه الأجواءِ السَّاخنة.

ثُمَّ تَبدَّل الحالُ، وصار يَعشَقُ اللغةَ العربيّةَ بعد أنْ كان يَكرَهُها؛ فكيف حَدَثَ هذا؟ وأين؟

هذا ما سَنَذْكُرُهُ في المَقَالِ القَادِمِ -إن شاء الله-.

والحَمْدُ للهِ على تَوفيقِه وامتِنانِه.