الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 13 مايو 2024 - 5 ذو القعدة 1445هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (163) دعوة غيَّرت وجه الأرض (10)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة الثانية عشرة:

قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ): في هذه الآية بيان الإيمان بالقدر، وهذه الدرجة المذكورة في هذه الآية هي درجة الخلق والجعل، وهي التي ينكرها القدرية، ومنهم: الخوارج والمعتزلة -ومن سار على طريقتهم-، مع أن إثبات العلم والكتابة مع إثبات خلق الله للذوات يلزم منه أنه هو الذي خلق أفعال العباد وصفاتهم؛ لأنه طالما كان يعلم أنهم سوف يفعلون؛ فلو أراد ألا يُعصَى لما خلقهم.

فتناقض هؤلاء المعتزلة؛ فأثبتوا خلق الله للذوات، وأنكروا خلق الله لأفعال العباد؛ بزعمهم أن العدل يقتضي ذلك! وأوجبوا على الله بعقولهم من حيث لا يعلمون ما أوجبوه على أنفسهم، والله -سبحانه- قد خلق للعباد قدرة ومشيئة بها تقع أفعالهم؛ فهذا هو العدل الذي وصف الله نفسه به، ولم يظلم الناس شيئًا، ولا يظلم مثقال ذرة، ولكنه -سبحانه وتعالى- هو الخالق لكل شيء، كما قال -عز وجل-: (اللَّهُ ‌خَالِقُ ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ) (الزمر: 62)، وقال: (‌وَخَلَقَ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ) (الأنعام: 101)، وقال -عز وجل-: (‌وَاللَّهُ ‌خَلَقَكُمْ ‌وَمَا ‌تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96).

وهذه المرتبة قد بيَّنها الله -عز وجل- في مواضع كثيرة في كتابه يشق حصرها، منها: قوله -تعالى- عن إبراهيم وإسماعيل -صلى الله عليهما وسلم-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ? إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128).

فالإسلام أصلاً من خلق الله في قلوب المؤمنين، ومن جعله لهم كذلك، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ ‌أُمَّةً ‌وَسَطًا) (البقرة: 143)، فوسطية الأمة بعملها وعقيدتها هي من جعل الله وخلقه لهم كذلك، وقال -سبحانه وتعالى- عن اليهود: (‌فَبِمَا ‌نَقْضِهِمْ ‌مِيثَاقَهُمْ ‌لَعَنَّاهُمْ ‌وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13).

فقسوة قلوبهم، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، عقوبة جعلها الله وخلقها فيهم على نقضهم الميثاق؛ فهذه القسوة خَلْق خلقه الله، وجعله صفة لقلوبهم.

وقال -سبحانه وتعالى-: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ‌أَكِنَّةً ‌أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) (الأنعام: 25)، وهذه الآية من أوضح ما يدل على أن الله يضل من يشاء بأن يجعل على قلوبهم أغطية؛ حتى لا تفقه الحق ولا تراه، رغم وضوحه وبيانه كالشمس!

وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ‌شَيَاطِينَ ‌الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 112-113)، فقضى الله -عز وجل- بحكمته وجعل -سبحانه وتعالى- لكل نبي عدوًّا من شياطين الإنس والجن، وهو الذي خلقهم كذلك، وجعلهم كذلك، وهو الذي قدَّر أن يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف الذي يُغَر به من شاء الله -عز وجل- من أهل الضلال، ولتميل إلى هذا القول المزخرف قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوا ذلك الباطل وليقترفوا ما هم مقترفون من المعاصي والذنوب، وكل ذلك بجعله بعلمه وحكمته؛ وضع الأشياء في مواضعها، ولا يجعل الشياطين كالنبيين، ولا المسلمين كالمجرمين، ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولا المتقين كالفجار.

وقال -سبحانه-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ ‌زُيِّنَ ‌لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 122)، فالله الذي جعل النور في قلوب المؤمنين وهو الذي أحيا هذه القلوب بعد موتها، وعلَّمها بعد جهلها، وجعلهم يمشون بهذا النور في الناس يعلمونه وينشرونه، وهو -سبحانه وتعالى- الذي زَيَّن لكل أمة عملهم، فخلق هذا التزيين للباطل في قلوب الكفار، حتى ارتضوا الكفر -والعياذ بالله-.

وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ‌وَمَا ‌يَمْكُرُونَ ‌إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام: 123)، فهو -سبحانه- الذي جعل في القرى المجرمين وأكابرهم ليمكروا بأهل الحق، ويحاولوا ردَّه، وهو -سبحانه وتعالى- الذي قدَّر ذلك كله بعلمه وحكمته.

وقال -سبحانه وتعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا ‌لِبَاسَهُمَا ‌لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27)، فالله الذي جعل الشياطين أولياء لمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى زيَّنوا لهم التعري وكشف العورات، مع أن الله فطر العباد على سترها، وأن يسوء الإنسان ظهورها؛ فهذه خطة الشيطان التي يضل بها الناس والتي يجذبهم بها إلى ولايته، والله الذي يجعل ذلك عدلاً منه وحكمة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.