كتبه/ أحمد يحيي وزير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل الكلام على السفر إلى بلاد الغرب وأثره المدمِّر على شباب المسلمين، وكنا تكلمنا في المقال السابق عن شروط السفر على بلاد الغرب، وخطر ذلك على الأُسر والشباب.
ولك أن تتخيل معي لو أن الإنسان بلغ ابنه عشر سنين -مثلًا- فأراد أن يؤدبه على تقصيره في الصلاة؛ مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، فما الذي سيحدث إذا رفع الولد أو أمه سماعة الهاتف واتصلت بشرطة البلد التي يقيمون فيها؟! سيُسجن الوالد، وسيُدفع بهذا الطفل المسلم المسكين إلى أسرة نصرانية ليتربى على عقيدة الوثنية والتثليث.
وماذا لو جاءته ابنته التي بلغت الخامسة عشرة بصديقها لقضاء ليلة معها في بيت أبيها وأراد هذا الأب المسكين أن يمنعها من ذلك؟ سيكون السجن هو المصير الذي ينتظره لتقييده حرية ابنته المُطْلَقَة التي كَفَلَها لها قانون هذا البلد!
بل كيف سيقنع هذا الأب المسكين ابنه الذي لم يزل بعد في المرحلة الابتدائية بعدم جواز أن يتزوج الابن صديقه الذي يجلس بجواره في المدرسة بعد ما أقنعته مُدَرِّستُه أنه لا مانع من زواجهما!
وما مقدار قوة التحمل في مواجهة الكم الهائل من حملات التغريب والإلحاد؛ فضلًا عن الشهوات التي ستواجه جيل الآباء؟ وإذا صمد هذا الجيل الذي خرج من بلاده بعقيدة التوحيد في مواجهة هذه الحملات، فهل سيصمد جيل الأبناء فضلًا عن صمود جيل الأحفاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 97).
قال ابن كثير -رحمه الله- عند تفسير هذه الآية: "فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ مَنْ أَقَامَ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَيْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال أيضًا: (لَا تُسَاكِنُوا المُشْرِكِينَ، وَلَا تُجَامِعُوهُمْ، فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، والمقصود بالمجامعة أي: الاجتماع معه في السكن. وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
قال ابن قدامة -رحمه الله-: "الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: مَن تجب عليه، وهو مَن يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار؛ فهذا تجب عليه الهجرة؛ لقول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: ??)، وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب؛ ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: مَن لا هجرة عليه، وهو مَن يعجز عنها؛ إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه؛ لقول الله -تعالى-: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: ??-99)، ولا توصف باستحباب؛ لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: مَن تستحب له، ولا تجب عليه، وهو مَن يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتستحب له؛ ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة" (انتهى من المغني).