تذكير العوام والخواص بمناقب عمرو بن العاص (2)
كتبه/ عبد الرحمن راضي العماري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
عمرو الفارس المجاهد والفاتح النبيل والقائد اللبيب:
منذ أسلم وهو مشارك في الوقائع، يستعمل ما حباه الله من مواهب ومناقب في نصرة الدين وأوليائه، ورفع راية الإسلام، ومجاهدة أعدائه، حتى كان محل ثقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه؛ فأسند إليه القيادة وأمَّره على الخلفاء الراشدين والصحابة السابقين، وفتح الله على يديه كثيرًا من الأمصار، وأشهرها: مصرنا، واستمر عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في فتوحاته في بقية مصر وشمال إفريقيا، وكان الفسطاط مقره في إدارة شؤون البلاد في مصر، وتوفي -رضي الله عنه- ودفن في ثراها.
وأما عن فقهه في الدِّين واستحضاره لمقاصده وقدرته على الاجتهاد في النوازل؛ فله في ذلك القدر الكبير، وكان -رضي الله عنه- فقيهًا حتى إنه فعل فعلًا استغربه كبار الصحابة ممَّن سبقوه في الإسلام والتعلم، وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اجتهاده؛ فقد روى عبد الرحمن بن جُبَيْر المصري عن عمرو بن العاص أنه قال: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟) فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29)، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
عاش عمرو -رضي الله عنه- مجاهدًا عابدًا، حاكمًا عادلًا؛ أحبه أهل مصر لفضله وعدله، وما أندر أن يحب الناس حاكمًا، ولا يكون ذلك إلا بتحقق أجمل ما يتصف به الحُكَّام في كلِّ زمان، مِن: (العدل والرفق، والعلم والحكمة والحزم).
وهذا مع اجتهاده في الطاعة -رضي الله عنه-؛ فإنه كان صوامًا قوامًا، وهذه صفات جمع لعمرو -رضي الله عنه- منها أعلاها، فقد حكم بين الناس بما شرع الله، وكان همه صلاح الناس، وعلو الشرع وإقامة الدِّين؛ ولذا كان من أوائل ما شرع فيه بعد استقرار الأحوال في مصر أن بنى مسجدًا للناس، هو أول مسجد شُيِّد في مصر وإفريقيا، بعد فراغه من فتح الإسكندرية سنة 21هـ، فكان جامعًا وجامعة، ومحكمة، وبيتًا للمال، وقِبْلة لطلاب العلم على مدى قرون.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.