الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 12 يناير 2023 - 19 جمادى الثانية 1444هـ

وقفات مع حديث السحابة (2)

كتبه/ محمد سعيد الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فما زلنا مع وقفات حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَما رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ؛ فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ؛ فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ) (رواه مسلم)، وفي رواية الطيالسي: (وَمَشَى الرَّجُلُ مَعَ السَّحَابَةِ حَتَّى انتَهَى إِلَى رَجُلٍ قَائِمٍ فِي حَدِيقَتِهِ يَسْقِيهَا).

- لَمَّا سَمِعَ هذا الرَّجُلُ صوتًا في السَّحابَةِ؛ انطلق خلفَهَا ليعرف مُستقرَّها، حتى وقفت فوق أرضٍ تكثُرُ عليها حجارة سوداء كأنها أُحرِقَت بالنار، لذلك يُقالُ لها: "الحرَّة"، ثم نزل المطر بغزارة في "شَرْجَةٍ": جمعها شِرَاج، وهي مَسَايل الماء في الأرض المرتفعة إلى السَّهل، ثم جَرَى الماء في مَجرَىً واحدٍ فقط حتى وَصَلَ إلى حديقةٍ، وفيها فلاحٌ قائمٌ، يوزِّعُ الماءَ ويوجِّهُهُ بِمِسحَاتِهِ إلى الأماكن التي لم يصل إليها الماء.

وكان مِن فوائد نُزُولِ المطر بهذه الطريقةِ وسَيرِهِ مِن خلال مَجرَى الماء: أن يرويَ حديقَتَهُ مِن ماءِ السماء، وألا يُبَلَّ له ثوبًا، ولا يُفسِد عليه طريقًا.

ويمكنُ أن نستخلِصَ مِمَّا سبقَ فائدتين:

1- بيانُ أنَّ الله تعالى هو الذي يُصرِّفُ شئون الكون: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82).

2- الرَّدُّ على أهل الإلحاد: فهذا فيه ردٌّ على أهل الإلحاد الذين ينسِبُون تصريفَ شئون الكون إلى الطبيعة، وأنَّ كلَّ ما في الكون يسيرُ بشكلٍ طبيعيٍّ دون مُصرِّفٍ له؛ فهذا الرجل سَمِعَ صوتَ المَلَك في السَّحاب لِيَنْزِلَ المطرُ بشكلٍ مخصوصٍ في مكانٍ مخصوصٍ إلى رجلٍ مخصوصٍ؛ فهذا دليلٌ قاطعٌ على وجودِ مُصرِّفٍ له، ولو كان ما حَصَلَ تُسيِّرُهُ الطبيعةُ -كما يزعمون- لَمَا صدَرَ صوتٌ مِن السَّحاب، ولَنَزَلَ المطرُ مُتفرِّقًا كما ينزل، ولَمَا سُقِيَت حديقة واحدة بهذا الشكل العجيب.

والإيمانُ بوجود الله هو أمرٌ مركوزٌ في فِطَرِ بني آدم، كما قال تعالى على لِسَان رسلِهِ: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (إبراهيم: 10)، وفي صحيح البخاري عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور: 35-37)، قَالَ: "كَادَ ‌قَلْبِي ‌أَنْ ‌يَطِيرَ". وكان جُبَيرُ إذ ذاك مشركًا، وكان سماعُهُ هذه الآية مِن جملةِ ما حَمَلَهُ على الدُّخول في الإسلام بعدها.

ويُذْكَر أنه في مدرسةٍ ابتدائية، قال المعلم لتلاميذ الصف السادس الابتدائي: "أترونني؟ قالوا: نعم، قال: فإذًا أنا موجود، ثم قال: أترون اللوح؟، قالوا: نعم، قال: فاللوح إذًا موجود، ثم قال: أترون الله؟! قالوا: لا، قال: فالله إذًا غير موجود! فوقف أحد الطلاب الأذكياء، وقال: أترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: فعقلُ الأستاذ إذًا غير موجود!".

فضل العمل والسعي في طلب الأرزاق:

قال عليه الصلاة والسلام: "فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ": كان صاحبُ القصةِ يعمل بالزراعةِ، ويأكل مِن كَسبِ يده، والعملُ في طلب الأرزاق خير مِن قبول الهدايا والعطايا؛ فضلًا عن سؤال الناس، فَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ ‌الْعُلْيَا ‌الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ) (متفق عليه)، ففي القصَّةِ إشارةٌ إلى قيمةِ العمل ومكانتِهِ؛ فهذا الرَّجُل ما اعتزل الدنيا أو تركها وراء ظهره، ولكنَّهُ جدَّ واجتهد، وبَذَلَ الأسبابَ، وسَعَى وراءَ الرِّزقِ، ثم تصدَّق من مالِهِ، وهذا هو حالُ الأمَّةِ العاملةِ، تبني وتُشيِّدُ، وتَجِدُّ وتَسْعَى، حتى تنالَ مكانتها بين الأمم.

وَاختَلَفَ أهلُ العلم فِي أفضل المكَاسِبِ، فقيل: أفضلُها الزِّرَاعَة. وَقيل: الصِّنَاعَة، وَقيل: التِّجَارَة؛ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: "الأَرْجَحُ عِنْدِي: أَنَّ أَطْيَبَهَا الزِّرَاعَةُ؛ لأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّلِ".

 وقيلَ: أفضلُ الكسْبِ يختلفُ باخْتلافِ حَاجَةِ النَّاسِ.

وللحديث بقية إن شاء الله.