الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 13 نوفمبر 2022 - 19 ربيع الثاني 1444هـ

مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (9)

كتبه/ ياسر محمد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد صرَّحت الأحاديث بنزول القرآن على سبعة أحرف، منها ما رواه مسلم، وأحمد، والطبري: "أنه لما أتاه جبريل بحرف واحد، قال له ميكائيل: استزده، وأنه سأل الله تعالى التهوين على أمته، فأتاه على حرفين، وأمره ميكائيل بالاستزادة، وسأل الله التخفيف، فأتاه بثلاثة، ولم يزل كذلك حتى بلغ سبعة أحرف".

وفي حديث أبي بكر: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة"، فدل على إرادة العدد وانحصاره، فالأمر غايته التخفيف، وليس حقيقة العدد، ولا أن قبائل العرب سبعة، أو أن اللغات سبعة، فالقول بتحديد السبعة أحرف "أوجه"، ليس ضربًا من الهوى أو التشهي، ولكن ثبت بالحديث.

وقال الإمام ابن الجزري رحمه الله: "تأملت هذا الحديث نيف وثلاثين سنة، مع تتبعي للقراءات فوجدت اختلافها يرجع إلى سبعة أوجه"، وهي كالآتي:

الأول: تغير الحركات مع كون المعنى واحدًا، ومثال على ذلك: حرف "يحسب"، و"يحسبون" بفتح السين وكسرها لغتان، وكذلك كلمة "البخل" بسكون الخاء وفتحها وضمها، وقوله: (‌إِنَّ ‌رَبَّكَ ‌يَعْلَمُ ‌أَنَّكَ ‌تَقُومُ ‌أَدْنَى ‌مِنْ ‌ثُلُثَيِ ‌اللَّيْلِ) (المزمل: 20)، بضم اللام وسكونها، فمما سبق من هذه الكلمات اختلاف حركات مع وحدة المعنى.

الثاني: اختلاف الحركات وتغير المعنى، ففي قوله تعالى: (‌فَتَلَقَّى ‌آدَمُ ‌مِنْ ‌رَبِّهِ ‌كَلِمَاتٍ) (البقرة: 37)، فقرئ (آَدَمُ) بالرفع، وقرئت: (كَلِمَاتٍ) بالخفض، أي: أن (‌آدَمُ) هو الفاعل، و(‌كَلِمَاتٍ) هي المفعول، على أنها جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة، وقرئت: (‌فَتَلَقَّى ‌آدَمَ) بفتح الميم، ورفع (‌كَلِمَاتٌ)، على أن (‌كَلِمَاتٌ) هي التي تلقَّت آدمَ.

الثالث: تغير في المعنى، وليس الصورة، ومن الأمثلة: (تبلو - تتلو)، وهذه الكلمة قبل نقط المصحف، رسمت في المصاحف بما يوافق وجوه القراءات، وكذلك كلمتي: (الصراط - السراط)، و(مالك - ملك)؛ فكل هذه الكلمات رسمت بما يحتمل وجوه القراءات، فالصورة واحدة، والمعنى مختلف، أو المعنى واحد، والصورة مختلفة.

الرابع: التقديم والتأخير نحو قوله تعالى في سورة التوبة: (‌يُقَاتِلُونَ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌فَيَقْتُلُونَ ‌وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: 111)، بفتح الياء في الأول، وبضم الياء في الثاني، وبالعكس، بضم الياء في الأول، وبفتحها في الثاني.

الخامس: الزيادة والنقصان، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: (‌وَوَصَّى ‌بِهَا ‌إِبْرَاهِيمُ) (البقرة: 132)، على التشديد والمبالغة في الوصية، وكذلك قرئ: (وأوصى) بزيادة ألف على التخفيف، وهي قراءة ابن عامر، والمدنيان، وكذلك قراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سورة الليل: (‌الذَّكَرَ ‌وَالْأُنْثَى) (النجم: 45)، ونكتفي بهذه الأوجه لعدم الإطالة.

قلت: وقد عَلَّق على هذا القول الذي انتصر له ابن الجزري، فضيلة الدكتور ياسر برهامي حفظه الله في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للشيخ عبد الله الغنيمان، باب: "فاقرءوا ما تيسر من القرآن"، حيث قال فضيلته: "وهذا القول من ابن الجزري لم يقله أحدٌ قبله" (انتهى بتصرف).

قلت: وهذا حَسَن منه حفظه الله؛ لأن هناك أوجه أخرى وقع بها التغاير والاختلاف؛ مما يدل على ضعف ما قاله ابن الجزري رحمه الله، ومنها: اختلاف الأسماء في الإفراد والتثنية والجمع نحو قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ‌فِدْيَةٌ ‌طَعَامُ ‌مِسْكِينٍ) (البقرة: 184)، بالجمع في (مَسَاكِيْن)، وقرئ: (مَسَاكِيْن) بالإفراد، وهذا لم يذكره ابن الجزري، مع أنه وجه من أوجه التغاير والاختلاف، ونحو قوله تعالى: (‌فَأَصْلِحُوا ‌بَيْنَ ‌أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10)، على التثنية، وقرأ يعقوب الحضرمي: "‌فَأَصْلِحُوا ‌بَيْنَ ‌إِخْوَتِكُم" على الجمع، ونحو قوله تعالى في سورة سبأ: (‌وَهُمْ ‌فِي ‌الْغُرُفَاتِ ‌آمِنُونَ) (سبأ: 37)، وكذا "‌وَهُمْ ‌فِي ‌الغُرْفَة" على الإفراد، ونحو قوله تعالى: (‌اللَّهُ ‌أَعْلَمُ ‌حَيْثُ ‌يَجْعَلُ ‌رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124)، و"رِسَالَاتِه" بالجمع.

الثاني: اختلاف الأسماء في التذكير والتأنيث، وقوله: (‌وَلَا ‌يُقْبَلُ ‌مِنْهَا ‌شَفَاعَةٌ) (البقرة: 48)، بتذكير الفعل المضارع "يُقْبَل"، وبتأنيثه تارة أخرى؛ فقد قرئ هكذا، وهكذا.

الثالث: اختلاف تصريف الأفعال من ماضي ومضارع وأمر، نحو: (‌وَمَنْ ‌تَطَوَّعَ ‌خَيْرًا) (البقرة: 158)، على أنه ماضٍ، وقول: "وَمَنْ يَطَّوَّع" على أنه مضارع، وفي سورة يوسف: (‌فَنُجِّيَ ‌مَنْ ‌نَشَاءُ) (يوسف: 110)، بالتشديد على أنه ماضٍ، و"ننجي مَن نَشَاء" بعدم التشديد على أنه مضارع، وفي سورة الأنبياء: (‌قَالَ ‌رَبِّي ‌يَعْلَمُ ‌الْقَوْلَ) (الأنبياء: 4)، و"قُلْ ‌رَبِّي ‌يَعْلَمُ ‌الْقَوْلَ" على أنه أمر، وفي سورة البقرة قوله تعالى: (‌فَلَمَّا ‌تَبَيَّنَ ‌لَهُ ‌قَالَ ‌أَعْلَمُ) (البقرة: 259) برفع الميم على أنه مضارع، وفي قراءة: "‌فَلَمَّا ‌تَبَيَّنَ ‌لَهُ ‌قَالَ ‌اعْلَم" بسكون الميم على أنه أمر.

الرابع: اختلاف وجوه الإعراب نحو قوله: (‌وَلَا ‌تُسْأَلُ ‌عَنْ ‌أَصْحَابِ ‌الْجَحِيمِ) (البقرة: 119)، بضم التاء على أن "لَا" هنا نافية، ولا تسأل على أن "لا" هنا جازمة.

وهذا على سبيل المثال، وإلا فالأمثلة كثيرة في هذا العنصر.

الخامس: الحذف والإثبات نحو قوله تعالى في سورة الحديد: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌هُوَ ‌الْغَنِيُّ ‌الْحَمِيدُ) (لقمان: 26)، بإثبات الضمير "هو"، وقوله: "‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌الْغَنِيُّ ‌الْحَمِيدُ" بحذف الضمير، وهي قراءة المدنيان، وابن عامر الدمشقي.

السادس: الإبدال نحو قوله تعالى: (‌وَمَا ‌هُوَ ‌عَلَى ‌الْغَيْبِ ‌بِضَنِينٍ) (التكوير: 24)، أي: ببخيل، أي: لا يكتم الرسالة صلى الله عليه وسلم، وقرئ: "بِظَنِين" أي: بمتهم، ونحو قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ ‌عَلَى ‌الْعَزِيزِ ‌الرَّحِيمِ) (الشعراء: 217) بالواو، وقرئ: "فَتَوَكَّل" بالفاء مكان الواو.

ونكمل إن شاء الله في المقال القادم.