الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 25 يوليه 2022 - 26 ذو الحجة 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (75) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ‌وَلَا ‌أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125).

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) لما ذكر الجزاء على السيئات، وأنه لا بد أن يؤخَذ مستحقها مِن العبد؛ إما في الدنيا  وهو الأجود له، وإما في الآخرة، والعياذ بالله من ذلك، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة؛ شَرَع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده؛ ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة، ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو: النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو: الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير، وهما في نواة التمرة، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة، والثلاثة في القرآن.

ثم قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي: أخلص العمل لربه عز وجل، فعمل إيمانًا واحتسابًا، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي: يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون متابعًا للشريعة؛ فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فَقَد العمل أحد هذين الشرطين فسد.

فمتى فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراؤون الناس، ومَن فقد المتابعة كان ضالًّا جاهلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة؛ ولهذا قال تعالى: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: (‌إِنَّ ‌أَوْلَى ‌النَّاسِ ‌بِإِبْرَاهِيمَ ‌لَلَّذِينَ ‌اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68)، وقال تعالى: (‌ثُمَّ ‌أَوْحَيْنَا ‌إِلَيْكَ ‌أَنِ ‌اتَّبِعْ ‌مِلَّةَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123)، والحنيف : هو المائل عن الشرك قصدًا، أي: تاركًا له عن بصيرة، ومقبلًا على الحق بكلِّيته؛ لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه رادٌّ.

وقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)؛ هذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يقتدَى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرَّب به العبادُ له، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ ‌الَّذِي ‌وَفَّى) (النجم: 37)، قال كثيرون من السلف: أي: قام بجميع ما أُمِر به، ووفَّى كلَّ مقامٍ مِن مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى: (‌وَإِذِ ‌ابْتَلَى ‌إِبْرَاهِيمَ ‌رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (البقرة: 124)، الآية، وقال تعالى: (‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120)، الآية والآية بعدها.

قال: وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا لما قَدِم اليمن صلَّى الصبح بهم فقرأ: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم.

وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما سمَّاه الله خليلًا؛ مِن أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْبٌ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل -وقال بعضهم: من أهل مصر- ليمتار طعاما لأهله من قِبَلِه، فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب مِن أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون ففعل ذلك، فتحول ما في غرائره مِن الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: مِن الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فقال: نعم هو من خليلي الله، فسمَّاه الله بذلك خليلًا.

قال: وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته: أن يكون خبرًا إسرائيليًّا لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب، (قلتُ: قد أحسن ابن كثير في ردِّ هذا الأثر واعتباره من الإسرائيليات).

وإنما سُمِّي خليلُ الله؛ لشدة محبة لربه عز وجل لما قام له مِن الطاعة التي يحبها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: "أما بعد، أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله"، وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا".

وروى أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: عجبًا! إن الله اتخذ من خلقه خليلًا فإبراهيم خليله! وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلَّم موسى تكليمًا! وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر: آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلم وقال: "قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك؛ ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول مَن يحرِّك حِلَق الجنة فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر".

قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.

(قلتُ: أما لفظه: "وأنا حبيب الله ولا فخر"؛ فلا شاهد له مِن حديث صحيح، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع وأول مشفع" فثابت في الصحيح، وكذا: "أنه أول مَن يحرك حِلَق الجنة" فصحيح أيضًا، وأنه أكرم الأولين والآخرين ثبت في الصحيح كما في قوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة").

وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه (قلتُ: هو حديث صحيح، والرؤية المذكورة فيه هي رؤية بالقلب للرسول صلى الله عليه وسلم كما ثَبَت عن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي في المنام في أحسن صورة، والرؤية في المنام ليست رؤية بالعين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه، فالرؤية في المنام رؤية بالقلب لا بالعين، ونقل الدارمي إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بقلبه ولم يره بعينه).

قال: وكذا رُوِي عن أنس بن مالك، وغير واحد من الصحابة والتابعين، والأئمة من السلف والخلف.

وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبيد بن عمير قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيِّف الناس فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلًا قائمًا، فقال: يا عبد الله، ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبدٍ من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلًا. قال: مَن هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جارًا حتى يفرِّق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فبمَ اتخذني الله خليلًا؟ قال: إنك تعطي الناس ولا تسألهم.

وروى بسنده عن إسحاق بن يسار قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا ألقى في قلبه الوجل، حتى إن خفقان قلبه ليسمع مِن بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء" (انتهى من تفسير ابن كثير).

وهذه الآثار الأخيرة أيضًا من الإسرائيليات، فالله أعلم بها.

وللحديث بقية إن شاء الله.