الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 30 يناير 2022 - 27 جمادى الثانية 1443هـ

الرد على الكاتب الليبرالي "سعد الدين الهلالي" في دعوى عدم تطبيق معايير الحلال والحرام في الفن!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فللأسف لا يكاد يخلو عملٌ فنيٌّ مِن أمرٍ يُخَالِف الأحكام الشرعية، بل لا يكاد يخلو عملٌ مِن وجود بعض الكبائر؛ فإما مَشَاهِد تعاطٍ للمخدرات أو شرب الخمور، وإما حياة الملاهي الليلية، أو الفواحش المتعلقة بالشهوة الجنسية، أو العدوان على الدماء في الأعمال التي تتناول تفاصيل حياة البلطجية!

ولكن هذه الأعمال التي تُنتَج في بلادنا توجد رقابة تغل أيدي صُنَّاع الفيلم بعض الشيء، وتفرض عليهم في كثيرٍ مِن الأحيان أن يتضمن العمل الإشارة إلى أن عاقبة هذه الأمور وخيمة، وفي واقع الأمر فإن هذا يؤدي في النهاية إلى نشر هذه المنكرات لا محاربتها!

كما رأينا كيف ساهمت الأعمال التي عالجت ظاهرة البلطجة في انتشار محاكاتها بكامل تفاصيلها في مشاهد حقيقية؛ ذلك لأن الفيلم أو المسلسل يظل طوال الوقت يعرض البلطجي، وهو يحقق هدفه ويهزم أعداءه، ويمر مِن كبوة إلى أخرى، إلى أن يتعلق به الجمهور "لا سيما من القريبين من شخصية البطل سنًّا"، وفي آخر حلقة مِن المسلسل أو آخر عشر دقائق من الفيلم نفاجأ بتغير دراماتيكي لكي يتجه البطل إلى التوبة، أو فجأة تحل عليه العقوبات الإلهية، وفي بعض الأحيان يقع في قبضة الشرطة، وهم بذلك يزعمون أنهم أعطوا رسالة، وهي: بيان عاقبة هذا السلوك! (البلطجة في هذا المثال).

وبالطبع ينسى الجمهور تلك اللحظات الكئيبة التي جَارَ فيها المؤلف على البطل بعد ارتباطهم به، وتبقى طريقة لبس البطل، وطريقة شربه للمخدرات، وطريقة انتقامه من خصومه هي التي تلتصق بالأذهان!

ولكن الموجة الجديدة من الأعمال الفنية لا سيما تلك التي تُنتج في منصات الفضاء الإلكتروني حيث يتلاشى القدر الضئيل الذي تفرضه الرقابة مِن تضمين العمل شيئًا عن كون هذه جرائم؛ فأصبحت تلك الأعمال تعرض لك الفواحش كواقعٍ يتعايش معه كلُّ مَن في الفيلم؛ مما يعني تطبيعًا مجتمعيًّا صريحًا مع هذه الفواحش، فإن اعترض معترض؛ قال صُنَّاع العمل ما معناه: إنهم اختاروا مجتمعًا صغيرًا سافلًا ومنحطًا، وعرضوه من باب عرض الواقع!

وبالطبع وصفه بأنه سافل ومنحط هذه قد تُقَال في الدفاع لتمرير العمل، ولكن العمل ذاته يختار لمثل هذا الانحطاط نجومًا محبوبين؛ بالإضافة إلى التصوير، والإضاءة، والكاميرا، ونسبة بعض الأخلاق الفاضلة أو المواقف النبيلة التي يزجها المؤلف ليجمِّل بها أبطالَ الرذيلة؛ مما يعني أن الموجةَ الجديدة تستهدف درجة أعلى مِن التطبيع مع هذه الفواحش!

ومن هذه الأعمال فيلم "أصحاب ولا أعز!"؛ الذي أنتجته شبكة نتفلكس التي تعرض أفلامها على موقعها، وقد كسر هذا الفيلم وتجاوز كل أسقف الرقابة -أو اللياقة-؛ مما استفز كلَّ الغيورين، وعلى رأسهم: "الأزهر"؛ مؤسسة وشيخًا، وانتقده كثيرٌ مِن الإعلاميين -جزاهم الله خيرًا-.

ومِن جملة مَن اتخذ موقفًا ضد هذا الفيلم: "حزب النور" الذي تقدَّم ببيانٍ عاجلٍ من خلال رئيس كتلته البرلمانية "الدكتور أحمد خليل"، وعلى إثره تمت مداخلة من النائب أحمد حمدي مع الإعلامي "عمرو أديب" وضَّح فيها أسباب رفض الفيلم، وبيَّن فيها أن سقفَ الحرية ينتهي عند مخالفة الشريعة، فقال: "أنت حر ما لم تعصِ الله!"، ليستضيف الإعلامي "عمرو أديب" بعدها الكاتب الليبرالي "سعد الدين الهلالي" فقال كلامًا خطيرًا مِن بينه: الرد على الدكتور "أحمد حمدي" في أن القاعدة الصحيحة هي "أنت حر ما لم تخالف القانون!"، و"أنت حر ما لم تعتدِ على حرية غيرك!"، وأنه لا ينبغي أن نتكلم عن الأمور المحرمة ما دامت في حق الله؛ لأن مدارها على التسامح، وإنما نتحدث عن القانون!

وبالتالي لا تستغرب -أخي القارئ- مِن أنني نعتُّه بالكاتب الليبرالي مع أني أعلم أنه أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، وذلك لأمورٍ، منها:

أولًا: أن الجامعةَ التي منحته درجة الدكتوراة ثم الأستاذية قد تبرَّأت مِن أقواله، واعتبرت أقواله شاذة، وغير معتدٍ بها!

ثانيًا: عِلْم الفقه -كما نعلم- هو العلم المعني ببيان الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين، ومِن المتفق عليه بين أئمة الفقه قاطبة عند أهل السُّنَّة -بل عند غيرهم من فقهاء الفِرَق الضالة: "كالزيدية، والإباضية، والاثني عشرية"-: أن ما مِن فعلٍ يُتصوَّر صدوره عن مكلَّف؛ إلا ولا بد أن له حكمًا شرعيًّا؛ فإما أن يكون مطلوب الفعل، أو مطلوب الترك، أو مستوي الطرفين.

وقد يختلفون في عدد الأقسام التي يتفرَّع إليها كلُّ قسم مِن هذه الثلاثة، والجمهور يقولون: مطلوب الفعل يشمل: الواجب، والمستحب، ومطلوب الترك يشمل: الحرام، والمكروه، وأما مستوي الطرفين؛ فهو المباح أو الحلال.

فإذا كنا نتكلم عن المعاملات -والتي الأصل فيها الإباحة-؛ إلا إذا طَلَبَ الشرعُ تركها طلبًا جازمًا؛ فتكون محرمة، أو طلب تركها على سبيل الأفضلية، فيُقَال: إنها مباحة مع الكراهة؛ فهذا يعني أنه ما مِن فعلٍ في أي جانبٍ مِن جوانب الحياة يتصور أن يفعله مكلفٌ؛ إلا وهو إما حلال، وإما حرام، وبالتالي: لا يتصور مِن: عالمٍ في الفقه، أو طالب علم، أو طويلب علم أن يقول: إن فعلًا ما مِن أفعال المكلَّفين يخرج عن دائرة البحث: هل هو حلال أو حرام؟

وبالتالي: فمَن يردد أن بابًا ما مِن الأبواب لا تعلُّق له بالحلال والحرام، يكون قد أخرج نفسه تمامًا من زمرة مَن ينتسِبون إلى الفقه؛ إلا أننا إذا تأملنا، وجدنا "الكاتب الليبرالي الهلالي": أنه متى سُئِل عن شيءٍ مما اعتاده الناس ويوجد مَن قال بجوازه بدليلٍ أو بغيره مِن أهل السنة، أو مِن غيرهم؛ انبرى مفتيًا متحدِّثًا أن هذا الأمر حلال في دين الله كما فعل مِن قَبْل في النبيذ، وغيره! فإذا وَجَد أنه لا سبيل إلى استخراج فتوى بتحليله هَرَب مِن ذكر الحكم الفقهي إلى ذكر الحكم القانوني، وهو ما يقودنا إلى النقطة الثالثة:

ثالثا: إن الرجلَ يعلن في كلِّ مناسبة يَخْرُج فيها: أن المُلزِم هو القانون، وليستِ الشريعة، وهذا ما استدعاه في ردِّه على الدكتور "أحمد حمدي"، وبالتالي: فبغض النظر عن أطروحاته في القضايا المختلفة؛ فهو يتبرأ مِن أن دوره الذي يقوم به أن ينقل للناس ما يعلمه مِن شرع الله، بل وينكر على غيره ذلك، ويتأسف لمَن يذكر الناس بحكم الله في المسائل المختلفة، وبالتالي: فكيف يُقَدَّم للناس على أنه أستاذ في الفقه يأتي ليقول الحكم الفقهي في المسائل المختلفة، وهو يفر مِن ذكر الحكم الفقهي، بل ويحذِّر ممَّن يذكره؟!

كل هذا يجعلني لا أصفه بأي وصفٍ يتعلق بالشريعة أو الفقه، وهذا بعينه هو الذي يجعلني أنعته بالمفكر الليبرالي، ولا أظنه يغضبه هذا الوصف؛ وإلا فقد اعترض على قول الدكتور "أحمد حمدي" أن القاعدة: "أنت حر ما لم تعصِ الله"، وقال: "إن القاعدة الصحيحة هي: أنت حر ما لم تخالف القانون!".

على أن الكاتبَ الليبرالي "سعد الدين الهلالي" أخطأ هنا مرة أخرى في فهم الليبرالية، وأخطأ في فهم الحرية، وأخطأ في فهم القانون، وأخطأ في فهم دور النائب البرلماني!

أما خطؤه في فهم القانون:

فالأمور التي تعرَّض الدكتور "أحمد حمدي" للكلام عليها، أمور يجرِّمها القانون، وتوجد فتيات يحاكمن بأفعالٍ هي أدني درجة من تلك التي وُجِدَت في هذا العمل، وعَبْر ذات الوسيلة (السوشيال ميديا).

وقد ترتَّب على هذا خطأ آخر: حينما اعترض على الدكتور "أحمد حمدي" بأن النائبَ البرلماني يراقب الحكومة، ولا يراقب الشعب، مع أن النائبَ طَالَب الجهات المعنية باتخاذ تدابير؛ فطالب النائب العام بتحريك دعوى (وذلك لأن القانون يجعل الإنكار القانوني على المنكرات العامة لا يكون إلا من خلال النائب العام).

وبالمناسبة: فمِن الناحية القانونية المحضة: يحق لأي مواطن يجد جريمة عامة أن يقوم بعمل بلاغ إلى النائب العام يطالبه فيه بالتحرُّك.

ومما أخطأ الكاتب الليبرالي في فهمه: أن الدستورَ ينص على مرجعية الشريعة، وأن المحكمة الدستورية العليا قد خاطبت مجلس النواب بأنه يقع عليه مسئولية تنقية القوانين المخالفة للشريعة، وهذا يشمل القوانين التي تقرر شيئًا مخالفًا كوجود فائدة على الديون، وهي القضية التي كانت تنظرها المحكمة حينما ذكرت ذلك الحكم كما يشمل الجرائم التي جرَّمتها الشريعة وسكت عنها القانون، ومِن ثَمَّ صار الأمر من الناحية القانونية وبتطبيق القاعدة القانونية أنه: "لا جريمة إلا بنصٍّ" (يعنون به النص القانوني).

وبالتالي: يكون مِن آكد الواجبات على كلِّ معظِّم للشريعة أنه إذا وَجَدَ أيَّ جُرْم شرعي مسكوت عنه في القانون، أن يطالب بتجريمه؛ ليكون القانون خاضعًا للشرع كما أمر الله تعالى: (ثُمَّ ‌جَعَلْنَاكَ ‌عَلَى ‌شَرِيعَةٍ ‌مِنَ ‌الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18).

وبعد هذا الاستعراض نخلص إلى النقاط الآتية:

1- الواجب على كلِّ مسلم أن يطبِّقَ شرع الله في كل أموره وقدر استطاعته: قال الله تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ"، وقال: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ"، وقال: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

2- الواجب على الحاكم أن يحكم بين الناس بشرع الله: قال الله تعالى: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُون . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".

3- أن مَن أطاع مَن حلَّل الحرامَ أو حرَّم الحلالَ؛ فقد اتخذه إلهًا من دون الله: عن عدي بن حاتم قال: أتيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: "يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك!"، قال: فطرحته، وانتهيتُ إليه وهو يقرأ في "سورة براءة"، فقرأ هذه الآية: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ"، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: "أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟"، قال: قُلتُ: بَلَى! قال: "‌فَتِلْكَ ‌عِبَادَتُهُمْ!" (رواه الترمذي والطبراني، وحسنه الألباني).

4- أن حكمَ القاضي المطبِّق للشرع إذا انبنى على وقائع غير صحيحة لا يقلب هذا الحرام حلالًا؛ فكيف لو كان القانون مخالفًا للشرع ابتداءً؟!

عن أُمِّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" (متفق عليه).

5- أن القاعدة التي يجب أن يَعملَ بها كلُّ مسلم، وأن يفتي بها كلُّ عالمٍ: "أن حدودَ حرية العبد هي ألا يعصي الله عز وجل"؛ فإن العبد يهوى أمورًا، وعليه أن ينظر: فإن كان ما رغب فيه مباحًا؛ فله أن يفعله؛ وإلا فلا بد أن يتركه مخافة الله عز وجل، "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"، وقال عز وجل: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ".

6- ولو وُجِد المسلم في بلادٍ لا تُطبَّق فيها أحكامُ الشريعة، أو لا يُطبَّق فيها حكمٌ مِن أحكامها، فيبقى التزامه بالشرع واجبًا عليه، وإن لم يُلزِمه أحدٌ به؛ وإلا فإذا كان الخمر والزنا بالتراضي مباحين -بعد بلوغ سنِّ الثامنة عشرة عامًا- في بلاد الغرب، وفي كثيرٍ مِن بلاد المسلمين؛ لبقاء القوانين التي وَضَعَها الاحتلال دون أن تنقَّى إلى يومنا هذا؛ فهل يقول مسلم: إن هذه الأمور تنقلب مباحة؟! ولا شك أن الجميعَ يعرف إجماع علماء الأمة على كفر مَن استحل محرمًا معلومًا من الدِّين بالضرورة تحريمه.

7- يتفق كلُّ العقلاء مِن كلِّ الملل: أن مَن وجدَ مَن يفعل خطأ: كالسرقة أو الاختلاس، أو الرشوة، أو التحرش، أو الاغتصاب؛ أنه يجب ابتداءً أن ينكر هذا الخطأ من داخله ثم يحاول أن يرد هذا المرتكب للخطأ عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا بالنصيحة، وبأي تدبير داخل في صلاحياته، وإن عجز رفع الأمر إلى السلطة التي تملك حق استعمال القوة المنظِّمة؛ لمنعه مِن التمادي في الخطأ، وهذا الذي يسمَّى في الشريعة الإسلامية: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‌مَنْ ‌رَأَى ‌مِنْكُمْ ‌مُنْكَرًا ‌فَلْيُغَيِّرْهُ ‌بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" (رواه مسلم).

8- كما يتفق العقلاء على ضرورة أن يقوم المجتمع والدولة معًا بزجر الخارجين عن نظامه العام؛ فيجد السارق والمرتشي، بل ومَن يلقي ورقة بالطريق العام التعليم والتهذيب إن بَدَا عليه الجهل، واللوم والعتاب والزجر إن أصرَّ على خطئه، وهذا الإنكار المجتمعي على هذه الجرائم، مثل: السارق، والمرتشي، و ... إلى أن نصل إلى بعض الأفعال -كإلقاء الأذى في الطريق العام-، هي أداة للمجتمع تكمل دور الأداة القانونية للدولة، وتعوِّض غيابها حال تقصيرها في تطبيق العقوبات، أو كون الأمر ليس مقدَّرًا له عقوبة، أو كانت المخالفة مما يصعب رصدها بطريقةٍ تثبت التُّهمة على صاحبها، وهذا أيضًا في الشريعة داخل في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

9- وهذا ويشمل أيضًا: ترك صداقة المُخَالِف للشريعة، قال الله تعالى: "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ ‌عَلَى ‌دِينِ ‌خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)، ويشمل هذا هجر المصر على معصيته، فعن ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا دخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّه كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّه وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُم يَلْقَاهُ مِن الْغَدِ وَهُو عَلَى حالِهِ، فَلا يَمْنَعُه ذلِك أَنْ يكُونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ"، ثُمَّ قَالَ: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ" إِلَى قوله: "فَاسِقُونَ" (المائدة:78- 81)، ثُمَّ قَالَ: "كَلَّا، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ" (رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن").

10- كما يتَّفق العقلاء على ضرورة أن تطبِّق الدولة عقوبات تحقق كلًّا مِن: الردع الخاص، والردع العام؛ بحيث يغلب على الظن أن مَن وقع في الجُرْم مرة ثم نال العقوبة، أن هذه العقوبة سوف تردعه هو شخصيًّا عن تكرار الخطأ، كما أن معرفة مَن لم يتورط بعد بها سوف يردعه عن ارتكابها.

وإن كان الشيطان قد سوَّل للأمم الأوروبية: أن العقوبات البدنية عدوانٌ على حقوق الإنسان؛ فجعلوا مكانها السجنَ الطويل لجرائم مختلفة؛ مما يعوق الإنسان عن حياته، وفي ذات الوقت لا يبقى أثر ألمها زاجرًا؛ إلا أن الشاهدَ: أن الجميعَ متَّفقٌ على وجود العقوبات كأصلٍ، وأنها يجب أن تحقق الردع الخاص، والردع العام.

11- وحتى المدارس التي تنادي بأن المجرم ما هو إلا مريض يستحق العلاج، لم تصل بأي دولة في الحاضر أو في الماضي، ألا يكون لها قانون عقوبات تُعاقِب به مَن يخرج عن نظامها العام.

12- ولا شك أن كلَّ مجرمٍ هو مريض، قال الله تعالى: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا"، وثمة اتفاق قانوني على أن المرضَ الذي تنتفي معه المؤاخذة هو الذي ينتفي معه الإدراك، أو يكون التصرف تصرفًا لا إراديًّا تحت تأثير مؤثِّر ما.

وبالتالي: فمدمن الخمر والمخدرات، بل والسجائر مريض، لكنه هو مَن دخل هذا الطريق، ولا زالت لديه الفرصة ليسلك سيبل العلاج القلبي والنفسي والعضوي، ولكنه لا يفعل، فيكون فاعلًا للمحرَّم، مستحِقًا للذم والعقاب في الدنيا والآخرة.

وأمراض الشهوة الجنسية تصل أحيانًا بأصحابها إلى إدمان أحوالٍ ليس فيها أي صورةٍ مِن صور اللذة التي يشعر بها الشخص الطبيعي!

ومِن الجرائم الفاحشة التي يتفق العقلاء على فحشها: "الاغتصاب".

والجو الذي يكون فيه المغتصِب لو كان شخصًا طبيعيًّا، ومع زوجته التي أباحها الله له، وتعرَّض لشيء يسيرٍ مِن جوِّ القلق والاضطراب الذي يصاحب فعله؛ يزهِّده في الدنيا بأسرها، وليس في الجنس وحده، ولكن لأن المغتصِب شخصٌ مريضٌ تملَّك الهوى منه؛ فإنه يستكمل جريمته!

ووصف حالته بأنها مرض يعني زيادة تجريم لها؛ لكونه هو مَن استجلب على نفسه المرض، وهو الذي يتجارى معه، ولا يبحث عن العلاج؛ ولذلك فاحتجاج البعض بانفكاك الجهة بين الاغتصاب وبين إثارة الغرائز -سواء مِن خلال التمثيل أو مِن خلال الواقع؛ بدعوى وجود مغتصبين يغتصبون رضيعات- مكابرة لمرضٍ هو مرض الشهوة، وتزداد تملُّكًا مِن أصحابها بالضرب على أوتارها بالمشاهد والألفاظ، والقصص، وتزداد الحالات المرضية حِدَّة الى أن يصل بعضهم إلى تلك الحال الشنيعة!

13- كما يتفق العقلاء أيضًا على أنه فَرْق بين المجرم المصر على جريمته، والذي يستحق عقابًا مزدوجًا من المجتمع ومن الدولة، وبين التائب -أو الذي يبحث عن طريق التوبة-؛ فهذا يجب على المجتمع والدولة أن يساعدوه ويلحقوه بالبرامج التأهيلية والعلاجية، وأن يقدِّموا له الحماية مِن أن يعير مِن ذنبٍ قد تاب منه، بل حتى مَن نال عقوبته ولو في ذنبٍ مما يستوجب الحد؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عليها" (متفق عليه).

14- ومن هنا يُتبيَّن التلبيس الذي يمارسه البعض من الكلام على ترغيب المذنب في عفو الله، وإخباره أن حقَّ الله مبني على التسامح، ولا أدري مِن أين أتى مَن يردد هذا بهذه الإطلاقات، والله تعالى يقول: "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي ‌هُوَ ‌الْعَذَابُ الْأَلِيمُ"، ويقول: "إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "‌لِأُنْذِرَكُمْ ‌بِهِ ‌وَمَنْ ‌بَلَغَ"، ونصوص الترغيب في الطاعات، والترهيب من المعاصي، جمعها الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب"، فجاءت في عِدَّة مجلدات؛ فكيف يخفى هذا على مَن يزعم عِلْمًا بالشريعة؟!

15- الغرب يتناقض مع نفسه، فيقر ضرورة وجود العقوبة المجتمعية والقانونية في جرائم، وينكرها في أخرى! وقد بيَّنَّا فيما مَضَى ضرورة وجود العقوبة مِن المجتمع، ومن الدولة، لمَن يصر على المعاصي أو الخروج عن النظام العام بالاصطلاح القانوني، وأن توصيف الانحراف بأنه مرضٌ لا يعني عدم مسئولية أصحابه عنه، وأن هذا يختلف عن الأمراض التي تؤثِّر على الإدراك، أو تسلب الإرادة، وقد مثَّلنا بجرائم مِن نوعية: السرقة، والاختلاس، والتحرش، والاغتصاب، ووجدنا أن الغربَ مِن حيث الأصل العام متوافق معنا في تجريمها، وضرورة وجود العقوبة، مع مدِّ العون للتائب، إلخ.

فإذا جئنا إلى: شرب الخمر، والزنا، والشذوذ، وجدتَ الغرب يتحدث بلسانٍ آخر يصل إلى حدِّ الترغيب في هذه الفواحش، أو -على الأقل- اعتبارها خيارًا؛ فكما يوجد مَن يشرب عصير برتقال، والآخر يفضِّل عصير الليمون، مع تقبُّل كلٍّ منهما للآخر؛ فليعتبروا شارب الخمر خيارًا ثالثًا مساويًا تمامًا لخيارهم!

وهذه حقيقة موقف الغرب من هذه الفواحش؛ أنه يراها خيارًا مقبولًا، وإن كان نادرًا (وبالطبع فإن الندرة في حدِّ ذاتها لا توجِب ذمًّا).

وقد يبالغ بعضهم فيقول: إن الحلَّ هو نشر هذه الأنماط النادرة بحيث تخرج عن حيِّز الندرة، وساعتها سوف تنتهي مشكلتهم تمامًا، وبالتالي تتبنى كثيرٌ من المؤسسات في الغرب نشرَ ثقافة التسامح مع الشذوذ، ومِن وسائلهم في ذلك: زيادة رقعة الشذوذ نفسه!

16- الغرب يريد نشرَ نمط ثقافته لأسبابٍ عديدةٍ، منها: "استمرار الهيمنة الحضارية - وبقاء إنتاجنا في كلِّ المجالات مكمِّلًا لإنتاجه ومغذيًا له - وبقاء أسواقنا مفتوحة له"، وثمة أمر مهم جدًّا فيما يتعلَّق بالفواحش، وهو: أن النفسية الأوروبية نفسية مغرمة باللذة، ويعزِّز هذا -عندهم- ضعفُ الإيمان باليوم الآخر في الحقبة النصرانية، وانتفاؤه قبلها في الحقبة الوثنية، ثم في الحقبة العالمانية -عند كثيرٍ مِن الغربيين-، وبالتالي: فاللذة الدنيوية هدف رئيسي -إن لم يكن الهدف الرئيسي- لحياتهم!

ولذلك لما اقتنعوا في وقتٍ مِن الأوقات بأن الخمرَ ضارة، وأرادوا تجريمها فشلوا، وكذلك الزنا واللذة الجنسية بكلِّ أنواعها.

وإذا كان المفكرون الغربيون مضطرين أن ينصحوا واضعي القوانين ألا يقفوا في طريق ملذات الأفراد؛ إلا أنهم يعلمون أن هذه الملذات تضعفهم اجتماعيًّا جدًّا من جرَّاء انهيار نظام الأسرة، ونحن نرى مقدار الحوافز التي تقدِّمها دول القارة العجوز أوروبا لشعوبها لكي ينجبوا نسلًا ويخرجوا من شرنقة الشعوب العجوزة، ومع هذا فهم يعانون، ويعوِّضون هذا بفتح باب الهجرة، ويريدون أن يكون هناك دائمًا عددٌ كافٍ مِن الجاهزين للهجرة من كلِّ الجوانب، وأبرزها: الجانب الثقافي، كما أنهم طالما سببت هذه الأمور عوامل ضعف عندهم هم مضطرون للتعايش معها؛ فلا أقل مِن أن يصدِّروا لنا عواملَ الضعف هذه؛ حتى لا ننفرد بأسباب قوةٍ مِن الممكن أن تقلب دفة السباق الحضاري، وسيكون بإذن الله، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

17- إذًا فالغرب لا يرى أن شربَ الخمر، والزنا، والشذوذ فواحش أصلًا؛ لا سيما وهو يرى أنها تصرفات شخصية، وإن كان هذا يعارض بموقف معظم الدول الغربية الذي يجرِّم المخدرات بناءً على ضررها العام للمجتمع، مع أن كلَّ ضررها يساوي ضرر الخمر، كما أنهم يتهربون من الاعتراف بالأضرار الجمة التي يعاني منها المجتمع، ولعِدَّة أجيال متعاقبة، وليس فقط لجيلٍ واحدٍ من جراء الهوس الجنسي.

وعلى أي؛ فالذين يتبنون موقف الغرب مِن هذه الجرائم أو حتى يقفوا موقف المتسامح معها -مع أنهم يرون بحكم كونهم مسلمين أنها جرائم وفواحش- يقعون في تناقضٍ كبيرٍ، والغرب نفسه يقف بالمرصاد لمَن يقرر أنها جريمة، وكذلك نحن نحرِّم كل ما حرَّمه ربنا، ونجرِّم كلَّ ما جرَّمه ربنا، ونتصدَّى لكلِّ محرم بالتعريف والتحذير الوقائي، ثم بالنصيحة للمتورطين، ومد يد العون لهم لمساعدتهم على التوبة.

18- أما ادِّعاء بعضهم: أن الفنَ لا يقيم إلا فنيًّا (يعني تتكلم في الحبكة الدرامية والتصوير ونحوها وفقط)؛ فهذا ادِّعاء غير حاصل أصلًا؛ فلو وُجِد عملٌ يقدِّم معلومات تاريخية خطأ يعترض المتخصصون في التاريخ، ولو وُجِد عملٌ يقدِّم معلومات طبية خطأ يعترض المتخصصون في الطب، ويصل الأمر إلى منع العمل،
ولو وُجِد عملٌ يقدِّم معلومات دينية خطأ يتم وقفه، وحصل هذا في أوروبا نفسها!

ويبقى الفرق بيننا وبينهم في شمولية الدِّين الإسلامي، وأن للشريعة عندنا حكمًا في كلِّ أمر،
"قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، وبالتالي فكل ما يصدر عن الممثلين من أفعال باعتبارهم ممثلين، أو ما تروجه الشخصيات التي يقدمونها في العمل من أفكار، لها حكم في الشريعة، ومَن يتصدَّى لبيانه لا علاقة له بالمعايير الفنية.

19- وقريب منه ادِّعاء عدم إمكانية تقييم مشهد واحد، بل لا بد من تقييم العمل كله! وهذا الاعتراض فرع على سابقه؛ يعني إنما يصدق هذا في حق مَن يقيِّم العمل فنيًّا؛ أما لو كان هناك مشهد فيه طبيب يقول معلومات طبية خطأ، وخرج أحدٌ ينتقِد أن هذه المعلومات خطأ؛ فلا يقال له: هل رأيت كل العمل أم لا؟

ومثلًا: لو كان كما يحصل أن تصوير مشهد مِن مشاهد البلطجة يعرِّض حياة الممثلين أو حياة المواطنين للخطر في مشهد تصوير خارجي، وخرج مَن ينتقد هذا المشهد من هذه الحيثية؛ فلا يُقَال له: وهل شاهدت كل العمل أم لا؟!

نقول هذا؛ لأن إحدى الحيل الدفاعية التي يستعملها أهل الفن، أنهم يقولون: لا يمكن نقد العمل الفني إلا لمَن شاهده، ومَن شاهده كاملًا، وهذا يبدو شرط تعجيزي؛ لا سيما عند مَن يريد ألا يقع في مشاهدة ما حرَّمه الله من العورات.

والصحيح أن نقل مَن شاهد كافٍ ليتحرك المصلحون، ويقوموا بدورهم في تحذير الأمة، وأن كل مشهد يحتوي على مخالفةٍ شرعيةٍ، أو يخالف معايير الأمن والسلامة، أو يقدِّم معلومة طبية خاطئة يمكن نقده حتى لمَن لا يعلم شيئًا عن بقية العمل.

20- كثير من الناس إذا حدثك عن الفن ورسالته أنشد في ذلك الأشعار، وكيف يبني الثقافة، ويصنع الوجدان، ويؤثِّر في الشعوب، و ... فإذا جئتَ تنتقِد عملًا فنيًّا؛ لكونه يزرع معانٍ فاسدة؛ فوجئتَ أنهم هم أنفسهم يرون أن العملَ الفني "فيلم مدته ساعتان أو حتى مسلسل 30 ساعة" ماذا عساه أن يغيِّر؟! وماذا عساه أن يهدم؟! مع أن الهدمَ أسهل من البناء، فالوسيلة التي تستطيع أن تبني إذا وُجِّهت للخير، تستطيع جزمًا أن تهدم إذا وُجِّهت للشر.

وربما لم يكن العكس صحيحًا؛ فلا يلزم أن كلَّ ما نجح في الهدم ينجح في البناء.

ألا فليختر كلُّ إنسان موقفه: هل يقف في فريقٍ يبني الأمة وشبابها بعقيدتها وأخلاقها، وتماسك أسرتها ومجتمعها؟!

أم يهدم الفرد والأسرة؛ ومِن ثَمَّ المجتمع والدولة؟!

نسأل الله أن يصلحنا، وأن يجعلنا في زمرة المصلحين.