الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 30 يناير 2022 - 27 جمادى الثانية 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (53) قصة إحياء الطيور الأربعة (15)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

الفائدة الحادية عشرة: ما رآه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الآية العظيمة:

قد جَعَلَ اللهُ لنا في آياته المشهودة التي أرشدتنا إليها آياتُه المقروءة ما هو مثله لمَن تدبر في خَلْق الإنسان، وفي إحياء الأرض بعد موتها، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14).

وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَ?لِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) (الحج:5-7).

وفي علم الأجنة الحديث ومتابعة مراحل السقط، بل تصوير حركة الحيوانات المنوية والبويضة ونموها، وكيف تحيط الحيوانات المنوية بالبويضة؛ حتى إذا أدخل واحدٌ مِن هذه العشرات من الملايين من الحيوانات المنوية -التي هي جزء من مئات الملايين في الدفقة الواحدة من الرَّجل- رأسَه في جدار البويضة؛ توقفت كل الحيوانات الأخرى، ثم تدخل المادة الوراثية -الموجودة في نواة الحيوان المنوي- داخل البويضة، وينحل جدار نواة البويضة، وتصطف كل الكروموزومات من الحيوان المنوي ومن البويضة كلٌ أمام نظيره؛ ثلاثة وعشرون زوجًا نصفها من الرجل، ونصفها من المرأة، تحمل كل الصفات الوراثية على أشرطتها من خلال مئات الآلاف من الجينات المرصودة وغير المرصودة.

ثم يتكوَّن غشاء للنواة الجديدة في البويضة الملقحة، ثم تهاجر البويضة الملحقة إلى تجويف الرحم، ثم تُزرع في جداره الخلفي الأعلى، وتبدأ في امتصاص المواد الغذائية والأكسجين من دم الأم الموجود في جدار الرحم؛ لتبدأ مرحلة العلقة، كما تمص العلقة (الدودة) الدم من جلد المحجوم ومَن تلتصق بجلده، ثم تتكاثر الخلايا وتهاجر من أماكنها؛ لتصطف في ثلاث طبقات خارجية وداخلية ومتوسطة.

وتبدأ مرحلة المضغة تمامًا مثل قطعة اللحم الممضوغة، ثم تهاجر كل مجموعة من الخلايا إلى موضع العضو الذي سيتكوَّن منها بقدرة الله، إلى أن يتم خلق الخلايا العظمية، ثم بعدها الخلايا اللحمية، ثم يُشكل الإنسانُ من بداية الأسبوع السابع؛ أي: عند اثنتين وأربعين ليليةً -كما في الحديث الذي رواه مسلم عن حذيفة بن أُسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم- إلى تمام ست وخمسين يومًا من تاريخ التلقيح؛ فتتكوَّن كل أجهزة الجسم من الطبقات الثلاثة التي خُلِقت في مرحلة المضغة.

فيتكوَّن الجهاز العصبي والجلد والجهاز الدوري -بما فيه من القلب والشرايين- والرئتان والجهاز التنفسي كله، والكليتان والجهاز البولي، والجهاز التناسلي، والجهاز الهضمي، والهيكل العظمي، واليدان، والرجلان، والرأس وما حواه؛ من العينين والأذنين، والفم والأنف، واللسان والشفتين بطريقة عجيبة بديعة! واللهِ إنها لأعجبُ من هجرة أجزاء الطيور الأربعة -التي رآها إبراهيم- إلى رؤوسها وأجزائها الأخرى، حتى عادت كما كانت! فتبارك الله أحسن الخالقين.

وأما حياة النبات: فتبدأ من جنين البذرة؛ فإذا سُقيت البذرةُ وامتص جنينُها العناصرَ الغذائية -الموجودة حوله داخل البذرة نفسها- بدأ في تصنيع الجذر والساق الذي يتجه كلٌّ منهما بوجهته المعروفة؛ هذا إلى باطن الأرض، والساق إلى فوق، ثم يشق الأرض.

وعندها يبدأ تكوُّن الأوراق التي تمتص الأكسجين وثاني أكسيد الكربون والطاقة الشمسية، ويتحول كل ذلك -بقدرة الله من خلال مادة الكلورفيل- إلى عناصر غذائية مع الماء، والعناصر الأرضية التي امتصها الجذر من باطن الأرض، وهذه كلها لا تدرك ولا تعقل، وليس لها عقلٌ، ولكن آثار قدرة الله -سبحانه وتعالى-.

وتمتد الخلايا وتتكاثر وتنمو وتهاجر إلى أجزائها المرتقبة من مزيد الجذور، والساق المرتفعة والأغصان والأوراق، ثم الثمار بعد الأزهار، ثم في نهاية الأمر كما قال -سبحانه وتعالى- تراه مصفرًا ثم يكون حطامًا، قال -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَذِكْرَى? لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21)، وقال -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ . نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى? فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ . أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (ق:58-67).

الفائدة الثانية عشرة:

ختْمُ هذه الآية الكريمة بقوله -عز وجل-: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) دليلٌ على أن ابتداء الخلق وإعادته، وإحياء الموتى من مقتضى عزته وحكمته -سبحانه وتعالى-؛ فهو عز وجل العزيز الغالب الذي لا يُمانَع، الذي قهر الخلق جميعًا بقدرته، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام:18)، وهو سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره؛ إذا أراد شيئًا قال له كن فكان.

وهو -عز وجل- الحكيم الذي أحكم خَلْق الأشياء وأتقن صنع كل شيء، وهو -سبحانه- الذي أحكم ما شاء مِن خلقه؛ ليريَ عبادَه قدرتَه، ثم هو الحكيم الذي له الحكمة التامة في خَلْق ما خَلَق، وفي شرع ما شرع.

ومَن تأمل الكون المشهود عَلِم الحكمة التامة، والعِلْم والعِزَّة، والقهر والغلبة، ظاهرةً باديةً في الموت والحياة، وفي دورة حياة الإنسان، وحياة النبات، وحياة الحيوان.

وكل ذلك -لمن تدبر- دالٌّ على كمال أسماء الله -سبحانه وتعالى- وصفاته.

ونسأل الله عز وجل أن يمنَّ علينا بشهود معاني أسمائه وصفاته في الكون، كما نتعلمها من كتاب الله سبحانه وتعالى.