كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
أبو إسحاق الإلبيري -رحمه الله- رجل جَمَعَ اللهُ له عِدَّة فضائل؛ فهو:
- قاضٍ أندلسي، وفقيه مالكي، لم يغب عن حلقات العِلْم؛ دراسة وتدريسًا للقرآن ورواياته، وللحديث بأسانيده. - وهو كذلك أديب له أشعار عذبة رقراقة سهلة المنزع، جلية المعاني، وغالب أشعاره في الزهد والحكمة.
- ثم هو أيضًا له مشاركة في الحراك السياسي في زمنه، وله حضور في المجتمع الذي لم يغب عن قضاياه، بل يشتبك معه ويؤثِّر فيه بشكلٍ فاعلٍ.
- وهو أيضًا الزاهد الذي اعتدل في مسلكه؛ فلا هو غالٍ منقطع عن دنيا الناس وأحوالهم، ولا هو الغارق في أحوال أهل زمانه -فترة ملوك الطوائف- الذين غلب عليهم كثير مِن صور الفساد والانحطاط.
هو إبراهيم بن مسعود: التجيبي -نسبة إلى قبيلة تجيب اليمنية؛ لأن أصله منها-، الإلبيري -نسبة إلى إلبيرة التي كانت فيها نشأته العلمية الأولى واشتهر فيها بالفقه والقراءات-، الغرناطي -نسبة إلى مدينة غرناطة الشهيرة التي انتقل إليها بعد إلبيرة، ولقي فيها الكثير من العلماء المشاهير في زمنه، واشتهر بينهم بعلمه وأدبه وزهده-، وقد وُلِد نحو عام 375 هـ، وتوفي -رحمه الله- نحو عام 460 هـ .
ومِن شيوخه: الإمام الأندلسي السلفي الكبير ابن أبي زَمَنِين -رحمه الله- صاحب كتاب أصول السنة والتفسير، وغير ذلك من المؤلفات النفيسة، الذي وصفه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بأنه الإمام القدوة الزاهد وشيخ قرطبة، وبأنه الذي تفنن واستبحر من العلم.
وقال القاضي عياض عن أبي إسحاق الإلبيري: "إنه من أصحاب عبد الله بن أبي زمنين، وروى عنه كتبه، وكان فقيهًا معظَّمًا في وقته، عليه تفقَّه عبد الواحد بن عيسى بن الهمداني فقيه غرناطة، وروى عنه كتب ابن أبي زمنين".
وكان مِن معاصري أبي إسحاق الإلبيري: ابن حزم -رحمه الله-، وابن زيدون الوزير والشاعر الأندلسي الشهير، وغيرهما من الذين كان لهم ولا شك تأثير متبادل في الحياة العلمية والأدبية والثقافية.
ومن الناحية الأدبية: فلأبي إسحاق -رحمه الله- ديوان شعر اندثر أغلبه ثم تم إحياء تراثه مؤخرًا على يد أحد المستشرقين الإسبان، وأكثر شعره سهل وجداني تملؤه الحكمة وتشعر فيه بالصدق، بعيدًا عن السائد في عصره من الصناعة المتكلفة، وشعر المدح لنوال عطاء الأمراء أو الإغراق في وصف الحدائق والقصور والمباهج.
ولعل من عيون شعره وأرقِّه وأشهره: قصيدته التائية، والتي تلقفها العلماء والمربون بالاستحسان معنى وأدبًا وفنًّا، ووصفها الواصفون بأنها الدرة الثمينة والجوهرة الفريدة، وكان الكثير من أهل العلم يلزمون طلبتهم بحفظها؛ لما فيها من معاني وذكرى يحتاجها كل طالب علم، بل كل مسلم، وفيها التذكرة بالأجل، والوصية بالتوبة والرجوع إلى الله، والحرص على إصلاح النفس، والتأكيد على فضل العلم وأهله، وأهمية طلبه والعمل به، وغير ذلك من الوصايا والمواعظ البليغة.
يقول الإلبيري في مطلع هذه القصيدة:
تفت فُؤَادك الأيام فتًّا وتَـنْحَـت جِـسْـمَـك الـسَّـاعَـات نـحـتًـا
وتدعوك الْمنون دُعَاء صـدق أَلا يـَا صـَاح أَنـْت أُرِيـد أنـتا
في خمس عشرة ومائة بيت ملؤها الزهد والحكمة.
وللحديث بقية -إن شاء الله- عن هذه القصيدة الرائعة الماتعة.