الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 24 نوفمبر 2021 - 19 ربيع الثاني 1443هـ

مستريح ومستراح منه!

كتبه/ نصر رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري -رضي الله عنه-: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: (‌مُسْتَرِيحٌ ‌وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: (الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) (متفق عليه).

قال النووي -رحمه الله-: "معنى الحديث: أن الموتى قسمان: مستريح، ومستراح منه، و(نَصَب الدُّنْيَا): تعبها، وأما استراحة العباد من الفاجر، معناه: اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوه:

منها: ظلمه لهم. ومنها: ارتكابه للمنكرات، فان أنكروها قاسوا مشقة من ذلك، وربما نالهم ضرره، وإن سكتوا عنه؛ أثموا، واستراحة الدواب منه كذلك؛ لأنه كان يؤذيها ويضربها، ويحملها ما لا تطيقه، ويجيعها في بعض الأوقات، وغير ذلك، واستراحة البلاد والشجر؛ فقيل: لأنها تمنع القطر بمصيبته) (شرح النووي على مسلم).

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه؛ لما يقع لهم من ظلمه، وراحة الأرض منه؛ لما يقع عليها من غصبها، ومنعها من حقها، وصرفه في غير وجهه، وراحة الدواب مما لا يجوز من إتعابها. والله أعلم" (فتح الباري).

إن أهل الفساد الذين يرتكبون المنكرات، ويشيعونها ويستعلنون بها، شؤمٌ ونكد على البلاد العباد، وسببٌ في المشقة والضرر والإثم، فسبحان الله! حتى الشجر، والدواب تتأذى من الرجل الفاجر، وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، ونصب العداوة لهذا الدين ولأهله العاملين المتمسكين به، وإعلان لمعصية الله -تعالى-، والتي لا يقتصر شؤمها على ابن آدم فحسب؛ فلذا يستريح بموته كل من حوله، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.

ومن هذا ما كان فرح أهل السنة بموت أهل البدع والضلال، والدعاة إلى الباطل، والصد عن سبيل الله، خـاصة إذا كانوا رؤوسًا في الباطل؛ لأنه بموتهم، يتوقف شرهم وآذاهم، وتكسر أقلامهم، وتحسر أفكارهم وبدعهم التي يلبِّسون بها على الناس. 

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وقاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الخوارج، وذكر فيهم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم، وسجد لله شكرًا لما رأى أباهم مقتولًا -وهو "المخدَّج" ذو الثُّديَّة-، بخلاف ما جرى يوم (الجمل) و(صفين)؛ فإن عليًّا لم يفرح بذلك، بل ظهر منه مِن التألم والندم ما ظهر" (مجموع الفتاوى).

وقال ابن القيم -رحمه الله وهو يعدد الفوائد من قصة كعب بن مالك وصاحبيه-: "وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشِّر: دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهي سجودُ الشكر عند النعم المتجددة، والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد علي بن أبي طالب لما وجد ذا الثُّديَّة مقتولًا في الخوارج، وسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بشَّره جبريلُ أنه مَن صلَّى عليه مرة صلّى الله عليه بها عشرًا ... وأتاه بشير فبشره بظفر جند له على عدوهم، ورأسه في حجر عائشة، فقام فخر ساجدًا ... وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها" (زاد المعاد).  

وذكر أبو حنيفة عن حمـاد أنه قال: "بشرت إبراهيم -النخعي- بموت الحجاج فسجد، ورأيته يبكي من الفرح" (سير أعلام النبلاء، الطبقات لابن سعد).

وقال الإمام الخلال -رحمه الله-: "قيل لأبي عبد الله -أي: الإمام أحمد بن حنبل-: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد، عليه في ذلك إثم؟ قال: ومَن لا يفرح بهذا؟" (السنة).

وعن بشر بن الحارث، أنه قال: "جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي، وأنا في السوق؛ فلولا أن الموضع ليس موضع سجود؛ لسجدتُ شكرًا، الحمد لله الذي أماته، هكذا قولوا" (تاريخ بغداد).

ولما جاء نعي وهب القرشي -وكان ضالًّا مضلًّا- لعبد الرحمنِ بن مهدي قال: "الحمد لله، الذي أراح المسلمين منه" (لسان الميزان).

وقال سلمة بن شبيب: كنتُ عند عبد الرزاق -يعني الصنعاني-، فجاءنا موت عبد المجيد، فقال: "الحمد لله الذي أراح أُمة محمد من عبد المجيد" (سير أعلام النبلاء)، وعبد المجيد هذا هو ابن عبد العزيز بن أبي رواد، وكان رأسًا في الإرجاء.

قال ابن كثير -رحمه الله- عن أحد رؤوس أهل البدع: "أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره، ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنة، وحين مات فَرِح أهل السنة بموته فرحًا شديدًا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدًا منهم إلا يحمد الله" (البداية والنهاية)، وهذا عبيد الله بن عبد الله بن الحسين، أبو القاسم الخفاف، المعروف بابن النقيب، ذكره ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية"، وقال عنه: "كان من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم -فقيه الشيعة- سجد لله شكرًا، وجلس للتهنئة، وقال: ما أبالي أي وقت متُّ بعد أن شاهدتُ موت ابن المعلم" (البداية والنهاية).