الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 16 سبتمبر 2021 - 9 صفر 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (34)

دعوة إبراهيم -عليه السلام- لمَلِك زمانه إلى التوحيد (1)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ? قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ? وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).

هذا الموضع الثاني في سورة البقرة في ذِكْر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ذُكر اسمه مرات في قصة بناء الكعبة التي كانت مقدَّمة لفرض القِبْلة على المسلمين إليها، تضمنت قصة بناء الكعبة بناء ملته -صلى الله عليه وسلم-، وبراءته من الشرك والمشركين، واليهود والنصارى، وجميع أهل الملل، وإثبات صحة انتسابه إلى الإسلام لا غيره.

وهذا الموضع الثاني يبيِّن دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إلى توحيد الله والإقرار بربوبيته، ووجوب عبادته، ومحاجة الملك الكافر الظالم المجادل بالباطل المدعي الربوبية، ولقد حاجَّه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، فحاجه وغلبه وأذله في الحجة؛ حتى بُهت، وأظهر دين الإسلام القائم على توحيد الله -عز وجل-.

والملاحظ: أن إبراهيم -عليه السلام- لم يقتصِر في دعوته إلى الله على أبيه وقومه والعامة فقط، وإنما دعا الملوك والكبراء والسادة، كما دعا أباه وقومه.

والملاحظ أيضًا في هذه المحاجة: أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل الحجج الكلامية، ولا الطرق الفلسفية، التي ظن الكثيرون عبر الزمان أنها معنى الحجة العقلية، مع أنها لا تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، وإنما تصرف الناس عن الحجج العقلية الحقيقية والنقلية الصحيحة؛ التي تضمنتها النصوص المنزلة في الوحي على أنبياء الله -عز وجل- ورسله.

بل واضح جدًّا أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- استعمل الحجة العقلية الصحيحة المبنية على إيقاظ الفطرة الإنسانية المستقرة في نفوس البشر؛ كل البشر في إثبات وجود الله -عز وجل- ووحدانيته، وإثبات صفات كماله؛ مِن مشاهدة آثار علمه وملكه، وقدرته وحكمته، وإتقانه وخبرته، وقهره وعزته، وسائر أسمائه وصفاته.

فمشاهدة ملكوت السماوات والأرض -الذي لا يستطيع أحدٌ ادعاءه لنفسه ولا لغيره من المخلوقين- توصل العبد إلى حقيقة يقينية؛ أن هذا الملكوت ثابت لله، وهذا هو طريق اليقين، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)، وقال -تعالى- عن موسى -صلى الله عليه وسلم- في جوابه لفرعون لما سأله: (وَمَا رَبُّ العَالمَيْنَ) (الشعراء:23)، مستعملًا نفس الحجة التي استعملها إبراهيم، قال -تعالى-: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ? إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء:24-28)، وقال -تعالى- في كتابه العزيز مُخبرًا عما يفعله في دعوة مشركي قريش وغيرهم من إظهار الحجج والآيات: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).

فالآيات الأفقية والآيات النفسية هي الحجج العقلية التي لا يستطيع أحدٌ ردها دون المجادلة الكلامية والمنطقية الفلسفية، وفي الصحيح من حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَواتِ والْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور:?? - ??)، قالَ: "كادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ" (متفق عليه)، أي: كاد أن يخرج من مكانه؛ لظهور الحجة العظيمة له التي تضمنتها هذه الآيات، وقد كان جبير -إذ ذاك- مشركًا، أتي في السنة الثانية بعد وقعة بدر ليكلِّم النبي -صلى الله عليه وسلم- في فداء أسرى بدر؛ لما عَلِم الناس قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَ المُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًا ثُمَّ كَلَمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَي لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) (رواه البخاري)، يعني: أسرى بدر، فأرسلت قريش ابنه جبير بن مطعم للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو إذ ذاك مشرك، فسمع هذه الآيات التي كانت سببًا في إسلامه بعد ذلك.

فليتأمل الداعون اليوم إلى إحياء علم الكلام والفلسفة بعد اندثاره مدة، وهم يزعمون أن مذاهب المتكلمين هي مذاهب أهل السنة والجماعة، وكذبوا في ذلك؛ فليتأملوا الحجج القرآنية والنبوية، وما احتج به الأنبياء قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أقوامهم كهذه الآية التي نحن بصددها في محاجة النمرود لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في ربِّه، وإجابة إبراهيم له، هل استعمل الأنبياء قط طريقة الفلسفة وعلم الكلام؟! وهل استعملوا المنطق اليوناني لإثبات وجود الله وخلقه للعالم؟! أو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله التي أخبر -سبحانه وتعالى- عنها أنه فعَّال لما يريد؟! هل استعملوا ذلك ولو مرة واحدة؟! يجزم كل عاقل وعالم بكلام الأنبياء والوحي المنزل عليهم أنه لم يستعملوه قط، بل استعملوا الحجج الفطرية التي هي الحجج العقلية الصحيحة؛ إضافة إلى الحجج النقلية التي قصَّها الله علينا عن الأمم السابقة وأحوالهم مع أنبيائهم، ومآلهم ومصيرهم لما كذبوهم.

فهذه الحجج النقلية العقلية هي التي تؤدي إلى حصول اليقين دون علم المنطق اليوناني والفلسفة وعلم الكلام، وليعلم الذين يجادلون الملحدين في زماننا أنهم لا حاجة لهم للفلسفة، ولا لعلم الكلام، ولا لحجج المعتزلة ولا الأشاعرة، ولا غيرهم؛ لإثبات حقيقة الربوبية؛ بل إنما تتم الحجة بتأمل ما تضمنه القرآن من الحجج العقلية وأخبار الأنبياء التي تظهر الحقيقة الجلية كالشمس، في وحدانية الله -سبحانه وتعالى- وخلقه لهذا العالم، وصِدْق رسله الكرام -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-.

وهذه القصة العظيمة -قصة إبراهيم- مع هذا الملك المتجبر الذي لم يَرِد اسمه في القرآن ولا في السنة الصحيحة، ولكن نقل كثيرٌ من أهل العلم من المفسرين أن اسمه: "النمرود" -وكان ملك زمانه- = قصةٌ تبين لنا وجوب دعوة الكبار كما يُدعى الصغار، يُدعى الملأ والسادة والملوك والأمراء، كما يُدعى عامة الناس، لا نقتصر في الدعوة إلى الله على عوام الناس دون كبرائهم، والله -عز وجل- يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وهذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه؛ ليبين لنا وجوب الدعوة إليه، وليبين لنا طريقة الدعوة الصحيحة؛ حتى لا نبتعد عن طريقة الأنبياء ولا منهجهم في بيان الحق للناس، واستعمال الحجج الصحيحة في إثبات دعوة التوحيد.

هذا وللحديث بقية -إن شاء الله-.