الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 25 مارس 2021 - 12 شعبان 1442هـ

دعوة الأَخِلَّاء لِسَلَامَة الصَّدْر وتَرْك الشَّحْنَاء

كتبه/ نصر رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن أعظم نعم الله -تعالى- على العبد المسلم: أن يجعل صَدْرَه سَلِيمًا مِن الشحناء والبغضاء، نقيًّا مِن الغلِّ والحَسَد، صافيًا من الغدر والخيانة، معافى مِن الضغينة والحقد، لا يطوي في قلبه إلا حب الخير، والإشفاق على جميع المسلمين.

ولقد نهى الإسلام عن كل ما يثير البغضاء، وينمي الشحناء، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، ‌وَكُونُوا ‌عِبَادَ ‌اللهِ ‌إِخْوَانًا) (متفق عليه).

وبيَّن -عليه الصلاة والسلام-: أن مِن أعظم أسباب الحرمان مِن الفضل العظيم: الحقد على المسلمين، أو الحسد لهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني). وفي رواية: (إِذا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ اطَّلَعَ الله إِلَى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤمِنِينَ ويُمْلِي لِلْكافِرِينَ، ويَدَعُ أهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني).

إن مِن علامات الصغار، وخسة الطبع: أن يمتلأ قلب العبد غلًّا وحقدًا وحسدًا على إخوانه المسلمين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَلَا ‌أُخْبِرُكُمْ ‌بِخَيْرِكُمْ ‌مِنْ ‌شَرِّكُمْ؟ خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وإن مما يدفع العبد إلى التحلي بسلامة الصدر، ومجاهدة نفسه على ترك الشحناء والبغضاء: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌تُفْتَحُ ‌أَبْوَابُ ‌الْجَنَّةِ ‌يَوْمَ ‌الْإِثْنَيْنِ، ‌وَيَوْمَ ‌الْخَمِيسِ، ‌فَيُغْفَرُ ‌لِكُلِّ ‌عَبْدٍ ‌لَا ‌يُشْرِكُ ‌بِاللهِ ‌شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) (متفق عليه).

قال الطيبي -رحمه الله-: "مشاحن أي: مباغض ومعادٍ لأحدٍ لا لأجل الدِّين... الشحناء: العداوة والبغضاء، ولعل المراد: التي تقع بين المسلمين من قِبَل النفس الأمارة بالسوء، ولا يأمن أحدهم أذى صاحبه مِن يده ولسانه؛ لأن ذلك يؤدي إلى القتل، وربما ينتهي إلى الكفر؛ إذ كثيرًا ما يحمل على استباحة دم العدو وماله" (مرقاة المفاتيح شرح المشكاة).

إن الصدور السليمة، والقلوب السليمة: هي التي امتلأت بالتقوى والإيمان؛ المتسعة لمعاني الإسلام، المستوعبة لمكارم الأخلاق، المتشبعة بالتراحم والتسامح، فتفيض بالخير والإحسان، وينطبع صاحبها بكل خُلُق جميل، وتنطوي سريرته على الصفاء والنقاء، وحب الخير للآخرين، فلا يضمر إلا الخير والصلاح، ولا يطوي فؤاده إلا على نية حسنة، فهو مِن نفسه في راحة، والناس منه في سلامة.

وقد بيَّن ابن القيم -رحمه الله- أن سلامة القلب: مشهد شريف جدًّا لمَن عرفه وذاق حلاوته، وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وطلب الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسه؛ بل يفرِّغ قلبه مِن ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له، وألذ وأطيب، وأعون على مصالحه؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده، وخير له منه، فيكون بذلك مغبونا، والرشيد لا يرضى بذلك، ويرى أنه مِن تصرفات السفيه؛ فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟

قال ابن رجب -رحمه الله-: "أفضل الأعمال: سلامة الصدر مِن أنواع الشحناء كلها، وأفضلها: سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه" (لطائف المعارف بتصرفٍ).

إن سلامة الصدر علامة فضل وتشريف، فعن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (‌كُلُّ ‌مَخْمُومِ ‌الْقَلْبِ، ‌صَدُوقِ ‌اللِّسَانِ)، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

والمخموم: النقي، ومنه يقال: رجل مخموم القلب، إذا كان نقي القلب مِن الغلِّ والَحَسد.

قال في النهاية: "هو مِن خممت البيت، إذا كنسته ونظفته. والخُمامة -بالضم-: الكناسة".

قال علي القاري -رحمه الله-: "أي: سليم القلب، لقوله -تعالى-: (‌إِلَّا ‌مَنْ ‌أَتَى ‌اللَّهَ ‌بِقَلْبٍ ‌سَلِيمٍ) (الشعراء:89)، مِن خَمَمْت البيت، إذا كنسته. فالمعنى: أن يكون قلبه مكنوسًا مِن غبار الأغيار، ومُنظفًا مِن أخلاق الأقذار" (مرقاة المفاتيح)، "فهذا القلب أكثر القلوب خيرًا، فيفعل البر تقربًا إلى مَن هو مشتاق إليه، فهو يجيش بأنواع البر... (و) ينبع منه عيون الخير، وتنفجر منه ينابيع البر" (طريق الهجرتين لابن القيم).

إن سلامة الصدر راحة لصاحبها، وسبب صلاح باله، وصفاء ذهنه، وطمأنينة قلبه، وعافية نفسه، وبرء من آلام وأوجاع، ومعاناة الغل، والحقد والحسد، ومِن سائر أدواء مرض الصدر وآفاته، ولذلك علَّق -سبحانه- النجاة يوم القيامة على سلامة القلب وصحته وطيبه، فقال -جل وعلا-: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . ‌إِلَّا ‌مَنْ ‌أَتَى ‌اللَّهَ ‌بِقَلْبٍ ‌سَلِيمٍ) (الشعراء:88-89)، فالقلب السليم الذي يحب للناس ما يحبه لنفسه، قد سلم جميع الناس مِن غشه وظلمه، وحقده وحسده، وأسلم لله فلا يعدل به غيره.

قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن، سأل عوف الأعرابي محمد بن سيرين: ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله -عز وجل- في خلقه".

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فالقلب السليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما مَن لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به".

قال ابن العربي -رحمه الله-: "لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا، وقد شرط النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإيمان، أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

إنَّ الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه، وتطلب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات، وأخذهم بالأرفق من حالهم.

ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- من أحرص الناس على سلامة قلبه، فكان يقول في دعائه: (‌رَبِّ ‌تَقَبَّلْ ‌تَوْبَتِي، ‌وَاغْسِلْ ‌حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). والسخيمة: الحقد، والضغينة والموجودة في النفس. قال في النهاية: "وقوله: (وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي): هي الحقد في النفس، أي: أخرجه.

ولقد كان معيار الأفضلية عند أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: طهارة القلوب، وسلامة الصدور، وليس بكثرة العبادات.

قال إياس بن معاوية في وصف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدرًا، وأقلهم غيبة"، وقال سفيان بن دينار: "قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال مَن كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويؤجرون كثيرًا، قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم".

ولذلك لما حضرت الوفاة أبا دجانة -رضي الله عنه- كان وجهه يتهلل، فلما سئل عن ذلك؛ قال: "ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أما إحداهما: فكنتُ لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا".

ودخل عمران بن طلحة بن عبيد الله بعد (وقعة الجمل) على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد استشهد أبوه طلحة -رضي الله عنه- فرحب به، ثم أدناه، ثم قال: "إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممَّن قال فيهم: (‌وَنَزَعْنَا ‌مَا ‌فِي ‌صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) الحجر:47).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وما رأيتُ أحدًا قط أجمع لهذه الخصال مِن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددتُ أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم. قال: وجئت يومًا مبشِّرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوةً وأذى له، فنهرني، وتنكر لي واسترجع. ثم قام من فوره إلى أهل بيته -أي: ذلك الخصم الذي مات- فعزَّاهم، وقال: أنا لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه... فسُّروا به ودعوا له، وعظَّموا هذه الحال منه -فرحمه الله ورضي عنه-".

وكتب -رحمه الله- رسالة فيمن ظلمه، وخالفه، وحقد عليه، فيقول: "وأول ما أبدأ به مِن هذا الأصل: ما يتعلق بي، فتعلمون -رضي الله عنك- إني لا أحب أن يؤذى أحدٌ مِن عموم المسلمين -فضلًا عن أصحابنا- بشيء أصلًا، لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلًا، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا، أو مخطئًا، أو مذنبًا، فالأول: مشكور. والثاني: مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه، مغفور له. والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فإني لا أسامح مَن آذاهم مِن هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام؛ إلا أن يكون له مِن حسنة، وممَّن يغفر الله له -إن شاء الله-، وقد عفا الله عما سلف.

فلا أحب أن ينتصر مِن أحدٍ بسبب كذبه عليَّ، أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن مِن الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي.

إذا أدمـت قـوارصـكم فـؤادي            صبرت على أذاكم وانطويت

وجـئـت إليكم طـلـق المحـيا              كـأني ما سمعـت ولا رأيــت

قال صديق لابن السَّمَّاك: "موعدنا غدًا نتعاتب. فقال له: بل موعدنا غدًا نتغافر".

مِن الـيـوم تـعـارفـنا           ونطوي ما جَرَى منا

فلا كـــان ولا صــار           ولا قــلتــم ولا قــلـنا

وإن كــــان ولا بــد             من العتبِ فبالحسنى