كتبه/ أبو بكر القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبين أيدينا في هذه السطور رواية، وقد وجدت رواجًا وتداولًا حتى أصبحت مِن أكثر الروايات مبيعًا، وهي رواية: "قواعد العشق الأربعون" لإليف شَفَق -كاتبة روائية صوفية-، رفضت نسب أبيها بعد انفصاله عن أمها، وانتسبت إلى اسم أمها شَفَق ناقمة على المجتمع الذكوري، متعددة الميول الجنسية كما تقول عن نفسها، وتفتخر بأنها صوفية تنتسب لجميع الأديان ولا تفرق بين حقائقها، وتعتقد بكلام ابن عربي الأندلسي وجلال الدين الرومي، أن الله يحل في الإنسان ويقبع داخله!
وهي رواية فكرية فلسفية وجودية من الطراز الأول، وخطرها في تمرير عقائد وأفكار منحرفة من خلال لغة الحب والعشق الخلابة التي تستلب الأسماع والأبصار، وتأسر المشاعر، وتستولي على مجامع النفوس كالسم الزعاف في العسل اللذيذ.
وهذه المقالات تمثِّل نظرة كلية نظرة كلية لأحداث الرواية، وتحليلها من منظور شرعي.
وقد تضمنت الرواية حبكة درامية وشخوصًا وأحداثًا في خطين من الزمن -متوازيين متبادلين-: أحدهما متقدم -في القرن الثالث عشر-، والآخر متأخر -في القرن الحادي والعشرين-، ومحورها الأصلي: حياة شمس التبريزي صاحب مدونة "قواعد العشق الإلهي الأربعون"، وهو رجل من الصوفية المتفلسفة الإباحية التي تدين بعقائد الحلول -اعتقاد أن الله يحل في ذات الولي-، والاتحاد -أن الله والكون مِن الأصل وحدة واحدة-، ورفع التكاليف الشرعية عن الأولياء، واستباحة الحرمات للوصول إلى حقيقة الحب الإلهي والفناء، واستواء الأديان والشرائع إذا تحقق جوهر الدين من المحبة والعشق، وهذا يتطلب تفسيرًا باطنيًّا للقرآن، فضلًا عن إهمال السُّنة، وتقليل شأن النبوة والاحتياج إليها في تفسير الشريعة؛ لأنه -في زعمهم- يغني عنها الحقيقة التي يجدها الولي في قلبه من تحديث الله "حدثني قلبي عن ربي!"، وحقيقة الفناء والاتحاد الذي تحدث بين الرب والعبد فيصير الرب عبدًا والعبد ربًّا حتى ينقل ويستدل بكلام البسطامي: "الله في عباءتي!".
شمس التبريزي: حياته في الرواية تظهر مِن خلال رواية تقرؤها بطلة الرواية (إيلا) في العصر الحديث، وهذه الرواية بعنوان: (الكفر الحلو) تجد فيها (إيلا) ملجأً لها في هذا الفكر الصوفي الروحاني من مادية حياتها وروتينها، وأنواع التدني الخلقي والمفارقات والاختلافات، وعتمة الروح من الفواحش والمعاصي، فتجد في (شمس) نموذجًا للشخص المتدين الذي يفهم الدين على الحقيقة، وقد وُلد قبل زمانه فهو أنضج من عصره فيستشعر بالغربة الشديدة والاستيحاش بين أهل الدين الظاهر والالتزام بالشريعة الحشوية الذين يظهرون في الرواية أنهم أصحاب بطون جائعة، وشهوات مشتعلة، وقلوب قاسية وخدم للسلطان والسياسة، وعُبَّاد المناصب والرياسات، وغافلون تمامًا عن دعوة الخلق وخدمتهم، ومشاركتهم آلامهم وحاجتهم النفسية والروحانية والمادية.
و(شمس): يظهر في صورة البطل المغوار الدرويش الذي يتحقق بمذاقات الدين وأشواق الروح، والعارف الفاهم لمقاصد الشرع الذي تجري على لسانه الحكمة، ويبدأ في رحلته البحث عن رفيق في رحلته الروحانية مستمدًّا من قصة موسى والخضر القدوة والأسوة، فيطرق مسامعه ذكر جلال الدين الرومي أحد فقهاء الأحناف كعالم بالشريعة الظاهرة، وخطيب مؤثر يزلزل القلوب والمنابر بخطبه الرنانة، فيرحل إليه ليكون رفيق دربه في رحلته الروحانية في سبيل العشق الإلهي، وفعلًا في طريقه يلتقي ببغي وسكير ممن تصورهم الرواية أنهم يعبدون الله في أعماقهم، ولكن قد دُفن النور داخلهم بدخن الشهوات ويحتاجون لاستنقاذ ورحمة، وأن أهل الدين الظاهر ظلمة جفاة جهلة يقسون عليهم قسوة عارمة، ولا يمد لهم يد العون إلا (شمس).
ينطلق شمس إلى مجلس الرومي ويلتقي به ويبغته بسؤال: هل النبي أفضل أم أبو اليزيد البسطامي؟!
في مواجهة واضحة صريحة بين الشريعة والحقيقة، وأن الأولياء يسبقون الأنبياء بدلالة قصة موسى والخضر، ومفهوم الصوفية المنحرفة لهذه القصة (انظر: أصول بلا أصول، د. محمد إسماعيل المقدم، ورده على هذه الشبهة).
ثم يتكلف الرومي الجواب المتنطع غير المنطقي ثم يفهم الرسالة ويتواصل مع (شمس) في خلوات روحانية بعيدًا عن الناس، يصبح فيها شمس معلمه وشيخه وملهمه الأوحد، يتحول فيها الرومي من عالم بالشريعة إلى عارف بالحقيقة يرمي كل كتبه في الماء، ويعتزل الناس حتى زوجه وأولاده؛ مما يثير الأحقاد والشكوك، وتبدأ حملات شرسة من الهجوم والنقد لشمس والرومي، وإشاعات الرذيلة والزندقة والكفر.
ويختلط شمس بعائلة الرومي: كيرا زوجته، وسلطان ولد، وعلاء الدين، وكيميا اليتيمة الذي يرعاها، ومنهم مَن يعاديه ومنهم مَن يُعجب به، ويتبين في سياق الرواية أن (شمس) مظلوم، وقد أساءوا به الظن، وهو لا يريد إلا الخير لجلال الدين.
تُظهر الرواية أن شمس وجلال اتحدَا روحيًّا حتى أصبحا واحدًا من خلال طريق العشق، وأنه إذا تدمر أحدهما تدمر الثاني، وهذا نص كلام شمس لعلاء الدين بن جلال، وهو معارض ومعادٍ له!
يتماهى جلال الدين تمامًا مع شمس في نبذ الأحكام الظاهرة والغرق فيما يزعم أنه حقائق الدين مِن التماهي مع العصاة لرحمتهم والقرب منهم، والرقص والموسيقى (تتبلور فكرة رقصة سما المولوية) يتحد فيها الراقص بذرات الكون يرفع يدًا ويخفض أخرى، ليأخذ الحب من السماء وينشره في الأرض، وهنا تحتد المواجهة الصريحة بين الشريعة والحقيقة التي يزعمون، فالصوفية افتعلوا صراعًا، ونصروا حظوظهم وأذواقهم الشاذة وأهواءهم في هذه المعركة في الحقيقة!
وللحديث بقية -إن شاء الله-.