كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا يخلو الإنسان في حياته مِن الحاجة إلى الحوار وآدابه، فالإنسان في علاقةٍ دائمةٍ ومستمرةٍ مع المجتمع والناس مِن حوله، يحاورهم ويناقشهم و يتفاوض معهم.
فالحوار في حقيقته: مراجعة الكلام وتداوله بيْن طرفين أو أكثر بقصد الوصول إلى الحق وإثباته أو رد الفاسد مِن القول ودفع شبهته، بصورةٍ يغلب عليها الهدوء والتجانس والتفاهم؛ بخلاف الجدال الذي يدل على المخاصمة والمنازعة.
لذا فإن كل باحثٍ عن الحق، وكل داعيةٍ إلى الله، بل وكل صديق مع صديقه أو أخ مع أخيه أو فرد مع أسرته -لا سيما في تلك الأوقات التي زادت فيها حدة الاستقطاب والاعتداد بالرأي- يحتاج بلا شك إلى معرفة آداب الحوار الواجب اتباعها حتى لا يخرج الحوار عن هدفه فيتحول إلى جدالٍ يؤدي للمخاصمة والمنازعة.
ومِن تلك الآداب التي يجب توفرها في الحوار:
1- الإخلاص والإنصاف عند المحاورة:
لابد أن يتصف المحاور بالإخلاص، وأن يقصد بحواره الوصول للحق ابتغاء مرضاة الله وحده، ويظهر أثر ذلك الإخلاص عند حواره مع غيره في إنصافه لمخالفه في نقاط حواره الصحيحة وعدم قصد الانتصار للنفس؛ حيث تظهر صور انتصار المحاور لنفسه غالبًا في العلو على المحاورين الآخرين مع استعراض القوة في الكلام وعلو الصوت، والتعصب في طرح وجهة النظر في محاولةٍ لإثبات صحة رأيه أو رأي شيخه أو مذهبه أو طائفته أو حزبه أو جماعته على رأي غيره، مع الغفلة عن أن ظهور الحق على يديه أو على يد صاحبه خيرٌ للجميع وفضلٌ عليه مِن الله -تعالى-.
وقد وجهنا الله -تعالى- في كتابه الكريم إلى ضرورة التمثُّل بالإنصاف في الحوار، وإن كان معك الحق المطلق كما ذُكر في بيان حوار النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين في قوله -تعالى-: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ:24).
قال البيضاوي في تفسيره: "( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ): بأنه في صورة الإنصاف المــُسكت للخصم المشاغب".
فإن كان هذا في الحق الواضح بلا خلافٍ بيْن المسلمين والكافرين، فما بالنا إن كان الأمر اجتهاديًّا بيْن المسلمين. فلا يُقال: نحن على حق وأنتم على باطلٍ مِن أول الحوار؛ لأنه حينئذٍ لن يجدي النقاش؛ إذ أن كلًا مِن الطرفين سيتعصب لرأيه، ويدعي أنه وحده على الحق، ولن يسعى حينئذٍ إلى تفهم وجهة نظر الآخر.
وقال الجويني -رحمه الله-: "فأول شيءٍ على المناظِر أن يقصد التقرب إلى الله -سبحانه-، ويطلب مرضاته في امتثال أمره -سبحانه وتعالى- فيما أمر به مِن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الحق، ويتقي الله أن يقصد بنظره أو بمناظرته المباهاة وطلب الجاه، والمماراة والرياء، ويحذر أليم عقاب الله، ولا يكون قصده الظفر بالخصم، والسرور بالغلبة والقهر".
وقال الشافعي -رحمه الله-: "ما ناظرتُ أحدًا قط على الغلبة". أي: ما دخلتُ في نقاشٍ مع أحدٍ قط ونيتي أن أغلبه فقط إنما للوصول إلى الحق مني أو منه.
بل كان مِن إخلاص الشافعي -رحمه الله- قوله: "ما ناظرتُ أحدًا قط فأحببتُ أن يخطئ".
وقوله -أيضًا-: "ما كلمتُ أحدًا إلا أحببتُ أن يوفَّق ويُسدد ويعان، وما كلمتُ أحدًا قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه".
وهذا تجرد صعب، لكن مَن أراده، وفقه الله -تعالى- إليه وأعانه عليه.
وقد رُوي في ذلك ما كان بيْن الشافعي وإسحاق بن راهويه -رحمهما الله-، فقد روى الحازمي بإسناده عن أبي الشيخ الحافظ، أنه قال: "حُكي أن إسحاق بن راهويه ناظر الشافعي -وأحمد بن حنبل حاضر- في جلود الميتة إذا دبغت، فقال الشافعي: دباغها طهورها. فقال له إسحاق: ما الدليل؟ فقال: حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا) (متفق عليه)". فقال له إسحاق: حديث ابن عكيم: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ" (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، فهذا يشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة؛ لأنه قبْل موته بشهر.
فقال الشافعي: فهذا كتاب، وذاك سماع.
فقال إسحاق: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر، فكانت حجة بينهم عند الله، فسكت الشافعي. فلما سمع (ذلك) أحمد ذهب إلى حديث (ابن) عكيم، وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي".