الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 31 أكتوبر 2013 - 26 ذو الحجة 1434هـ

دروس من الهجرة

كتبه/ محمود عبد الحفيظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي هذا الوقت من العام دأب كثير من المسلمين على الاحتفال بذكرى هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما دأب كثير من الدعاة والخطباء فيه على تناول هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشرح والبيان والتحليل مما قد يرسِّخ عند العامة ارتباط بداية العام الهجري بالهجرة النبوية -"وإن كان مجرد الحديث عن الهجرة في هذا التوقيت أو الكتابة عنها لا بأس به؛ إذ لا يُعد تخصيصًا بعبادة، ومِن ثَمَّ فليس احتفالاً"- رغم أنه لم يثبت أن هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت في شهر الله المحرم، فقد كانت الهجرة النبوية الشريفة في شهر "ربيع الأول" الذي حوى ثلاث مناسبات شهيرة، وهي: "مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهجرته، ووفاته".

وقد اتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على أن يؤرِّخوا بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- دون غزوة "بدر الكبرى" أول انتصار في الإسلام أو فتح مكة أو غير ذلك من المناسبات الحاسمة في تاريخ الأمة؛ لأن "الهجرة فرَّقت بيْن الحق والباطل" كما قال الفاروق عمر -رضي الله عنه-، فأخذ الصحابة بقوله ورأيه؛ ولأن بالهجرة تكوَّن النظام السياسي لدولة الإسلام، وتأسست في المدينة النبوية الدولة الإسلامية، وصار للإسلام شوكة وقوة.

ثم تشاور الصحابة -رضي الله عنهم- مِن أي شهر يكون ابتداء السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان الذي قدِم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- أن يكون مِن المحرم؛ لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم الذي به تمام أركان دينهم، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم- والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر الحرام "المحرم".

ومعلوم أنه لا يُشرع الاحتفال بهذه المناسبة؛ فإن هذا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه -رضي الله عنهم- وتابعيهم بإحسان، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإحداث في الدين، فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدِثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

ولا شك أن واقعة الهجرة تمتلئ بالدروس العظيمة والفوائد الجليلة التي يتعلم منها الجميع: قادة وجنودًا، وأفرادًا وجماعات؛ خصوصًا مع ما تمر به الآن بلدنا الحبيبة "مصر" في تلك الفترة من تاريخها المعاصر من أحداث عصيبة تحتاج منا إلى التكاتف وتضافر الجهود، وتغليب صوت الحكمة والعقل، وإعلاء مصلحة الأمة والوطن على المصالح الشخصية والمكاسب الحزبية التي يُتصارع عليها، وتكاد تودي بأمن هذا البلد واستقراره!

وقد خلَّد الله -سبحانه- في كتابه الكريم هذه الواقعة العظيمة، وهذا الحدث الفارق في حياة الدعوة والأمة الإسلامية، فقال -عز وجل-: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:41).

ومن أهم ما يطالعنا في أحداث السيرة العظيمة من دروس وفوائد لها تعلق بواقعنا المعاصر:

- إدراك المعاني الشرعية والإيمانية مع إدراك الواقع والوعي به: وقد تمثَّل هذا واضحًا جليًّا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحياته عامة "وفي الهجرة خاصة"، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- على وعي ومعرفة بما هو مقبل عليه في سلمه وحربه، وجهاده ودعوته، وفي تقديره لإمكانات خصومه من حيث العدد والعدة, والظروف, ومدى طاقتهم وقدرتهم؛ حتى لا يبني خطته على معطيات خاطئة أو ناقصة فلا يتحقق مقصوده وهدفه.

وقد كان -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة يدعو إلى الله -تعالى- ويؤصِّل المعاني الشرعية والإيمانية - يعلم بملوك الأرض، ويعلم بالنجاشي ملك الحبشة وأنه ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، وأشار على أصحابه بالهجرة إلى أرضه.

وفي واقعة الهجرة تجلت هذه المعاني كذلك "بصفة خاصة" لا ينتهي منها العجب من دقته -صلى الله عليه وسلم- ويقظته؛ سواء في اختيار الزمان المناسب وتحديد ساعة الصفر، أو المكان سيهاجر إليه، والذي سيختبئ فيه، واختيار الطريق الذي سيسلكه، والمعاونين له وشخصياتهم، ومدى كفاءتهم في إنجاز دورهم، والأسلوب والسرية والتمويه.... مما يدل على ما ينبغي أن تكون عليه الشخصية المسلمة التي تسعى إلى خدمة دين الله -تعالى- والتمكين له.

وكم يُفسِد مَن يسعى للتصدر والقيادة ويخبر عن نفسه أو غيره أنهم رجال المرحلة وحراس الدين، وهم لا يدرون ما تحت أقدامهم فضلاً عما ما يقع حولهم... !

- المفهوم الحقيقي للثبات والصمود: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (التوبة:41)، (وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ لَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، مَا خَرَجْتُ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، فخرج -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الحكمة والمصلحة الشرعية كانت في هذا الخروج والانسحاب من مكة، وكانت في هجرته -صلى الله عليه وسلم- من مكة لا في المعاندة والبقاء فيها والذي كان ربما أفضى إلى قتله والقضاء على دعوته؛ فليست الشجاعة والبطولة مرادفة للتهور والاندفاع وعدم تقدير عواقب الأمور؛ وإلا لَما اختبأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في "الغار" وهو أشجع الناس، ولأن المواجهة لم تكن تحقق مقصودًا شرعيًّا.

فعجبًا لمن يحرِّض على اقتحام الجموع الهائلة بالصدور العارية بأسماء مختلفة -كالثبات والصمود والجهاد- ومزاعم متعددة... دون إعمال لموازين القوى وتقدير المصالح والمفاسد، مستدلاً على ذلك بوعد الله الصادق بنصرة المؤمنين وتأييدهم، وبقوله -تعالى-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249)، وبأن أعداد المشركين دومًا كانت تفوق أعداد المسلمين في غزواتهم وحروبهم.

وهو بهذا يضرب نصوص الكتاب والسنة بعضها ببعض ولا يعي ما فيها، فإن الله -تعالى- كما قال: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فقد قال -سبحانه-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال:60)، وهو الذي قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ . الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:65-66).

وقد امتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- قادة غزوة مؤتة الثلاثة -رضي الله عنهم-، وامتدح خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ووصفه بأنه "سيف الله" لما تحيز بالجيش وانسحب به وعاد إلى المدينة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ، فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (رواه البخاري)، وسمَّى -صلى الله عليه وسلم- ما فعله خالد "فتحًا"؛ لأن ما فعله خالد -رضي الله عنه- كان هو الخيار الصائب الموافق لمقاصد الشريعة، وهو تحريز المسلمين والنجاة برأس المال الحقيقي المتمثل في جند الله المؤمنين الذين تمكنوا بعد سنوات قلائل من فتح البلاد وتعبيدها لله -عز وجل-، ومدح -صلى الله عليه وسلم- هذا الجيش -رغم انسحابه- وقال: (بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، وَأَنَا فِئَتُكُمْ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ أحمد شاكر).

مع أن القادة الثلاثة "زيد بن حارثة - جعفر بن أبي طالب - عبد الله بن رواحة" كان يحتمل عندهم النصر والظفر، ولم يكونوا جازمين بالهزيمة والقتل، ولكن بعد مقتل القادة الثلاثة تأكد وتبيَّن أن الفرق بين القوتين لا يحتمل معه القتال، فكان انسحاب خالد فتحًا، مثلما كان "صلح الحديبية" فتحًا مبينًا كما سماه الله -تعالى- مع ما كان فيه من الانصراف وترك القتال، وإنما كان كذلك؛ لما فيه من المصالح العظيمة للإسلام والمسلمين.

وقد يسيء البعض الفهم فيستدل بقوله -تعالى-: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (النساء:84)، على الدخول في مصادمات محسومة العاقبة تضر ولا تنفع، ويتأولها على أن ذلك من الشرع أن يقاتل ولو بمفرده!

قال ابن عطية -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "لَمْ يَجِئْ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ عَلَيْهِ دُونَ الأُمَّةِ مُدَّةً مَا، فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ مِثَالُ مَا يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، أَيْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِكَ الْقَوْلُ لَهُ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَسْتَشْعِرَ أَنْ يُجَاهِدَ وَلَوْ وَحْدَهُ" (تفسير ابن عطية 2/ 86).

والتطبيق العملي في السيرة النبوية الشريفة يبطل هذا التأويل، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج قط منفردًا لقتال ولم يأمر بذلك، ونبيا الله موسى وهارون -عليهما السلام- لم يخرجا ليقاتلا وحدهما لما امتنع بنو إسرائيل عن الدخول على القوم الجبارين مع وعد الله بالنصر والغلبة إذا دخلوا عليهم الباب.

- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على مكتسبات الدعوة والرسالة، وشفقته على جنده وأتباعه: فقد تأخرت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يهاجر حتى اطمأن على أصحابه الذين سبقوه إلى المدينة وظلوا متشوقين إلى هجرته إليهم، ولم يهاجر -صلى الله عليه وسلم- كما هاجر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ويقول: من أراد أن تثكله أمه أو يتيتم ولده فليلقني خلف هذا الوادي؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أسوة، والناس منهم القوي مثل عمر -رضي الله عنه-، ومنهم الضعيف، وعمر -رضي الله عنه- شخص واحد يتصرف بحسب قوة إيمانه وجرأته.

فضرب -صلى الله عليه وسلم- الأسوة لأمته بنفسه في أخذه بالأسباب في الهجرة، وتستره عن أعين المشركين، وحافظ على دعوته وعلى أصحابه الذين رباهم على عينه، وغرس فيهم غرسه الطيب في: العقيدة، والعبادة، والمعاملة، والتزكية، وأذِن لهم بالهجرة والفرار من أعداء الله ليس للفرار بالنفس فحسب، وإنما كذلك لهدف أسمى وأعظم وهو إقامة الحياة على منهاج الله وشريعته، ونشر دين الله في ربوع الأرض، ولم يزج بهم في مصادمات تستأصل شأفتهم ولا يَنصرون أو يصلحون بها دينًا أو دنيا!

ومن هذا الباب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر -رضي الله عنه-: (ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي)، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قُتَيْبَةَ: (اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ وَارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ) فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَثَارَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ... " (متفق عليه).

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "قَوْلُهُ: لأَصْرُخَنَّ بِهَا: أَيْ: بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ جِهَارًا بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ بِالْكِتْمَانِ لَيْسَ عَلَى الإِيجَابِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَازُ قَوْلِ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ يُخْشَى مِنْهُ الأَذِيَّةُ لِمَنْ قَالَهُ وَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ جَائِزًا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلافِ الأَحْوَالِ وَالْمَقَاصِدِ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ يَتَرَتِّبُ وُجُودُ الأَجْرِ وَعَدَمِهِ".

- الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله: لما عزم النبي -صلى الله عليه وسلم- على الهجرة كتم ذلك ولم يُسر به إلى أحد إلا لأبي بكر -رضي الله عنه- في اللحظات الأخيرة، تقول عائشة -رضي الله عنها-: فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْبِلاً مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا أَمْرٌ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لأَبِي بَكْرٍ: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ)، قَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ)، قَالَ: فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) (رواه البخاري).

وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسلك طريقًا غير مألوف حتى لا يعترضه أحد من المشركين، فاستأجر لذلك عبد الله بن أريقط وكان ماهرًا خريتًا، خبيرًا بالطرق والمسالك، ورغم أنه كان مشركًا إلا أنه لم يخن ولم يغدر ولم يفشِ سر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه؛ مما يدل على بصيرته النافذة -صلى الله عليه وسلم- وحسن اختياره.

- أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار ثور ثلاثة أيام.

- لم ينسَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدبِّر أمر الطعام والشراب، والأخبار في تلك الفترة التي سيقضيها في الغار، فجعل أسماء بنت أبى بكر -رضي الله عنها- لإعداد الطعام والشراب تأتيهما به ليلاً حتى لا يراها أحد.

- جعل على أخبار القوم عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما-، فكان يسمع ما يدور في مجالس القوم نهارًا ويعيه، فإذا جاء الليل أتاهما بأخبار الناس وأعلمهما بما يتكلمون به، وعلى أساس هذه الأخبار كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطط للبقاء في الغار أو لمغادرته.

- كان -صلى الله عليه وسلم- يخشى أن يرى أحد من المشركين أثار أقدام عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء فيستدل بها على مكانهما فأمر عامر بن فهيرة مولى أبي بكر أن يسرح بالغنم مبكرًا على آثارهما فيعفي عليها، ويزيل ما قد يكون سببًا في معرفة مكانهما، كما كان يريح الغنم عليهما ليلاً فيذبحان منها، ويحلبان فيشربان.

- الانشغال بواجب الوقت واحترام السنن: كان -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن قومه سيخرجونه من بلدته ومن وطنه الذي هو أحب الأوطان إليه -وإلى كل مسلم-، وكان على موعد معهم في ذلك كما أخبره ورقة بن نوفل -رضي الله عنه-: "يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ!" (متفق عليه)، ومع ذلك لم ينشغل النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا... بل ظل يدعو إلى الله صابرًا محتسبًا، يقوم بما يقدر عليه من تقليل الشر والفساد، والدعوة إلى الله بكل مستطاع، فقد كان هذا الذي في قدرته -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن يملك نصرة لأصحابه، ولا لنفسه الشريفة وهو الذي أصابه من أذى قومه وعشيرته ما أصابه، ومع ذلك لم يدعُ -صلى الله عليه وسلم- إلى صدام مع المشركين العتاة في فجورهم وفسادهم، ولم يأمر بذلك، وإنما كان يقوم بما أقدره الله عليه.

- الصدق والوفاء: وقد تمثَّل هذا في حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أداء الأمانات إلى أهلها ووصولها إلى مستحقيها، وقد استبقى عليًّا -رضي الله عنه- ليقوم برد الحقوق إلى أهلها، وهذا في معاملة مشركين وثنيين محاربين لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قد فعلوا به وأصحابه ما فعلوا... فكيف بأهل الإسلام؟!

فيا عجبًا لمن ينقض العهود والمواثيق، ولا يعظم ما عظمه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-!

- المفهوم الحقيقي والصحيح للنصر: فقد سمَّى الله -تعالى- نجاة النبي -صلى الله عليه وسلم- واختفائه عن أعين المشركين نصرًا في كتابه: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، فليست صورة النصر الوحيدة هزيمة المشركين، وإما تحصيل كل المكاسب أو تضييع ما عندنا وما في أيدينا! بل إن من أعظم صور النصر: بقاء الدعوة إلى الله حتى تصل إلى غايتها المنشودة، والثبات على المنهج والحفاظ عليه حتى تتلقفه الأجيال ويصل نور الرسالة إلى كل أجناس البشر.

- الثقة في الله والتوكل عليه والاستبشار بنصره: وهذا من أعظم الدروس المستفاد من الهجرة النبوية، فمع كل هذه الاحتياطات وصل المشركون إلى الغار... يقول أبو بكر -رضي الله عنه-: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه).

وأبو بكر -رضي الله عنه- لم يكن يخشى على نفسه وإنما يخشى على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى دعوة الإسلام فيحزن إذا تصور ضياعها؛ لذلك لم يقل له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تخف" بل: (يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).

فاستحضار معية الله الخاصة لعبده المؤمن والتوكل عليه يذهب الحزن من القلب، ويملؤه بالاستبشار والأمل، واليقين بنصر الله وفرجه.

وما أكثر دروس الهجرة وإلهاماتها...

وما أحوجنا إلى هجرة الخطايا والذنوب...

عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) (رواه البخاري)، وفي لفظ ابن حبان: (الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وفي رواية قال: (مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

فهلموا بنا إلى الهجرة...

إلى هجر الكذب والرياء، والغيبة والنميمة، والضعف والكسل، والإهمال والترف.

هلموا إلى الهجرة...

إلى هجر ما يخالف الإسلام وشريعته... في بيوتنا، وأعمالنا، ومعاملاتنا، وفي كل حياتنا.

هلموا بنا إلى محاسبة النفس ومراجعتها...

فها نحن على وشك استقبال عام هجري جديد وتوديع عام مضى وقع فيه ما وقع من التقصير والتفريط: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18)، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47).

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".

وليس المراد أن تكون المحاسبة لمجرد المعرفة أو التحسر فيكون حالنا كحال من يعرف موارد الماء ولا يأتيها وهو يكاد يموت عطشًا! وإنما المراد المحاسبة الإيجابية التي يتبعها إصلاح ومجاهدة ومصابرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).

نسأل الله -جلَّ وعلا- ونحن نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا أن يهيئ لأمتنا من أمرها رشدًا، وأن يعجل فرجها، وأن يحفظ بلادنا من كل سوءٍ.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.