الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 09 فبراير 2013 - 28 ربيع الأول 1434هـ

المشهد السياسي

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

1- أصابت امرأة وأخطأ عمر... بين الخطباء والساسة

في وقت كان العالم الغربي يئن تحت وطأة نظام اجتمعت فيه الديكتاتورية الدينية ممثلة في الكنيسة مع الديكتاتورية السياسية مع الاستبداد المالي ممثلاً في الإقطاع، كانت أنوار الإسلام تشرق على العالم وتعلن معها انتهاء تلك العبودية، كما عبر عن ذلك ربعي بن عامر -رضي الله عنه- في خطابه لـ"رستم" قائد الفرس حينما خاطبه بقوله: "الله ابتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

لم يكن إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد شعارًا مفرغًا من المضمون أو من الخطوات العملية لتطبيقه، حاشا لله من أن يكون شرعه كذلك! وإنما كان معه نظام سياسي محكم من أهم مبادئه: "الشورى": (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)، ومنها: تقرير مبدأ المساءلة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... ) (متفق عليه)، فها هنا قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تولي الأمر رعاية ومسئولية "والمسئولية هنا محمولة على معناها اللغوي الطبيعي، فهي اسم مفعول لا وصف تفخيم وتعظيم كما ترسخ في أذهان الكثيرين من كثرة ما استعمل ذلك الوصف لهذا الغرض في ظل النظم الشمولية التي حكمنا بها لفترات طويلة".

والرعاية تقتضي ممن وَلي الأمر أن يبذل غاية وسعه في القيام بحاجات رعيته، والمسئولية نوعان: أحدهما في الآخرة: يوم يقف أمام الله -تعالى- فيسأله عن هذه الأمانة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر -رضي الله عنه- منفرًا إياه من تولي هذه المسئولية -ولو كان مالاً ليتيم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَ) (رواه مسلم).

والثاني: أمام الأمة التي لم يكتفِ الشرع بأن يعطيها حق المساءلة، بل جعلها واجبة عليها وهي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعل الله -تعالى- ذلك الأمر سببًا لخيرية هذه الأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110).

وهذا الواجب لا يُستثنى منه الحكام كما قد يتوهم البعض، بل يتأكد في حقهم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم)، ويتأكد هذا في حق الحاكم الذي يرفض النصيحة أو يعاقب عليها؛ لما في ذلك من كسر حاجز الخوف عند الناس وحاجز الكبر والطغيان عند ذلك الحاكم فقال -صلى الله عليه وسلم-: (سَيِّد الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جائرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ) (رواه الترمذي والحاكم، وحسنه الألباني)، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: (سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ) (رواه مسلم).

ولم يشهد عصر النبوة صورًا يمكن تصنيفها على أنها من إنكار منكرات الحكام؛ نظرًا لعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الظلم والجور؛ وإن كان عصر النبوة قد شهد مراجعات للنبي -صلى الله عليه وسلم- أبدى فيها بعض الصحابة رأيًا مخالفًا له -صلى الله عليه وسلم- إعمالاً للشورى، من أشهرها: قصة "الحباب بن المنذر" -رضي الله عنه- في غزوة بدر حينما أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنزول عند بئر بدر.

وبدأ عهد الخلفاء الراشدين بتلك الخطبة العظيمة التي قال فيها أبو بكر -رضي الله عنه-: "إذا أصبت فأعينوني وإذا أسأت فقوموني"، ثم جاء عصر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والذي افتتح بخطبة مماثلة لخطبة سلفه، ونتيجة لطول مدة ولايته مقارنة بمدة أبي بكر -رضي الله عنه-؛ ولكثرة ما تعرض من مواقف اقترن اسم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالحاكم العادل، ونُقل عنه في ذلك أقوال وأفعال، وقيل فيه كذلك أقوال، فمن أقواله التي حملتها عنه الأجيال: "لو أن دابة عثرت في العراق لخشيت أن يُسأل عنها عمر"، ومما قيل فيه -رضي الله عنه- قول رسول كسرى إليه لما وجده نائمًا تحت ظل شجرة متوسدًا بنعله: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر".

ومن أكثر ما اشتهر على ألسنة الناس من قصص عدله -رضي الله عنه- "ثلاثة مواقف":

الأول: "قصة الثوبين"

وقد ذكرها أبو الفرج -ابن الجوزي- في كتاب مختصر الحلية عن العتبي قال: "بعث إلى عمر حلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوب، ثم صعد المنبر وعليه حلة والحلة ثوبان فقال أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع. فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله؟! قال لأنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك حلة! فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله ثم نادى: يا عبد الله فلم يجب أحد، فقال يا عبد الله بن عمر فقال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم، قال سلمان" نسمع". وهذه القصة على شهرتها تُروى بغير سند غير أن فحواها لا يختلف كثيرًا عن الموقف الآتي:

الثاني: قصة مراجعة المرأة له -رضي الله عنه- في المغالاة في المهور

قال عبد الله بن مصعب: خطب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: لا تزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية وإن كانت بنت ذي الفضة، يعني يزيد بن الحصين الحارثي، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقامت امرأة في صف النساء فقالت: ما ذاك لك! قال: ولم؟ قالت: أيعطينا الله قنطارًا وأنت تحرمنا إياه؟ وتلت قوله -تعالى- من سورة النساء: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (النساء:20)، فقال عمر -رضوان الله عليه- قولته المشهورة: "أخطأ عمر وأصابت امرأة"، وقال: "كل الناس أفقه منك يا عمر، ليت أم عمر لم تلد عمر!". وهذه القصة اختلف أهل العلم فيها بيْن من حكم عليها بالضعف ومن رفعها لدرجة الحسن لغيره "اعتمدنا في هذه القصة على تلك الرواية التي أوردناها؛ لأن فيها ما يمكن استدراكه على عمر وهو أخذه ما زاد من المهر عن الأربعين أوقية، وهو مناف للآية كما ورد على لسان المرأة، وأما الرواية الأكثر شهرة والتي ليس فيها إلا أن عمر نهى الناس عن المغالاة في المهور فليست معارضة للآية، بل وموافقة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، والجدير بالذكر أن العلامة الألباني ضعَّف الرواية المشهورة من جهة المتن فضلاً عن السند لهذا السبب".

وعلى أي فنحن هنا لا يعنينا الصحة من الضعف بقدر ما يعنينا أن نؤكد أن النموذج الذي بشر به خطباء الصحوة الإسلامية الناس يتضمن أن تنكر على الحاكم علنًا وفي المسجد وفي أمور تحتمل التأويل، وأن هذه هي الممارسة الصحيحة للحرية السياسية التي يحرص عليها الرعية ويسر بها الإمام، وهذا ما يدندن حوله الخطباء دائمًا؛ ومِن ثَمَّ فلا يكتفون بما مضى حتى يضيفوا تلك القصة الثالثة.

الثالث: "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من يقَوِِّم عمر بسيفه!"

ومفاد تلك القصة أن عمر -رضي الله عنه- قال في خطبته: "إذا أحسنت فأعينوني، وإذا أسأت فقوموني"، فقام له الرجل فقال: لو رأينا فيك اعوجاجا، لقوّمناه بسيوفنا! فرد عمر: "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من يقَوِّم عمر بسيفه!"..

وهي قصة واهية سندًا ومتنًا، وتخالف إجماع أهل العلم على عدم الخروج على الحاكم بالسيف، ولكن هناك أثرًا أجود سندًا ومتنًا من ذلك الأثر المشهور ذكره "الذهبي" -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء عن موسى بن أبي عيسى قال: "أتى عمر مشربة بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة، فقال: يا محمد، كيف تراني؟ قال: أراك كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، قويًّا على جمع المال عفيفًا عنه، عدلاً في قسمه، ولو ملت عدلناك، كما يعدل السهم في الثـِّقَاف فقال عمر: "الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني".

إذن نخلص من هذا العرض لأشهر ثلاثة مواقف عن عدل عمر -رضي الله عنه- وعن الحرية السياسية في عهده إلى أن الثابت من ذلك قوله: "الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني"، وقوله: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"، وقد قدمنا لك أن هذه هي الصورة التي قدمها خطباؤنا لجمهور الناس.

وأهم من ذلك: أن كثيرًا من مرشحي الرئاسة ومنهم: الدكتور "مرسي" قد قالوا في مؤتمراتهم الانتخابية أو قيل نيابة عنهم مثل ذلك الكلام؛ مما يدل على أن هذا "عقد بينهم وبين ناخبيهم".

وإذا كان الناخبون قد تغاضوا عن ذكر آمال بعيدة المدى، مثل هتاف: "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، والذي ردده بعض المتحمسين للدكتور "مرسي" في المؤتمرات الانتخابية رغم علم الجميع أن هذه الانتخابات ينتج عنها رئيس لمدة أربع سنوات سوف لا يُتوقع خلالها ولا خلال الأربع التي بعدها أن تُلغى "اتفاقية السلام" كأحد أهم الموانع من انطلاق الملايين إلى القدس - فإذا كان من الممكن تجاوز ذلك الهتاف -العاطفي- فلا يمكن قط أن يُفاجأ الناس بأن الرئيس الذي كانت أدبياته وأدبيات جماعته تتحدث عن ترحيب وسرور الحاكم "المستجمع لأعلى درجات القوة والمكانة في زمنه كعمر -رضي الله عنه-" لدرجات حادة من النقد -تبلغ حد التقويم بالسيف وفق الراوية التي يفضلها الخطباء أو التقويم كما يقوم السهم كما في الرواية الأثبت- ردًا على خطأ في اجتهاد -كما في قصة المرأة- أو بناء على انحراف متوهم -كما في قصة الثوبين- أنه لا يُقبل في حقه ذلك!

لقد كان بعض من المنتسبين للدعوة قبل الثورة يدافعون عن الحاكم الظالم بإنزال نصوص في غير موضعها مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) (رواه البخاري)، وكانت معظم فصائل الصحوة تواجههم بمثل هذه النصوص -السالفة الذكر- في الإنكار على أفاضل الحكام كعمر -رضي الله عنه-؛ لكي تبين لهم أن عليهم أن يفهموا ما تمسكوا به من نصوص على ضوء غيرها من النصوص الأخرى وبناءً على هدى السلف في تطبيقها، والآن بعد أن أصبح لدينا رئيس إسلامي نسي البعض تلك الأدلة! وترسب في عقله الباطن أننا كنا نواجه بها الحاكم العالماني الجائر، وهذا صحيح ولكن هذا لا يعني إطلاقًا أن نخصها به؛ لا سيما أن منها ما ثبت في حق عمر -رضي الله عنه-.

إن محاولة بسط الحماية للرئيس الإسلامي سواء من النصيحة مطلقًا أو حتى تقييدها بالنصيحة في السر في الأمور العامة المعلنة التي تعلق حق لعموم الأمة فيها -وليس الحاكم وحده- هو:

أولاً: مخالف للنصوص الشرعية.

ثانيًا: مخالف لما وعدنا به الناس.

ثالثًا: من الناحية السياسية تتعرض التجربة الإسلامية بأسرها للخطر؛ حيث يفقد الناس الثقة بالخطاب الإسلامي، والأخطر من ذلك: أن يترسب لديهم أن الإسلاميين يوظفون ثقة الناس بهم ليختاروا لهم من بين أنفسهم رئيسًا ثم إذا وصل إلى الكرسي أحاطوه بسياج من التقديس! أو على الأقل لا ينصحون له فيما يتعلق بمصالح الناس.

والأخطر من هذا كله... أن يتخطى ذلك إلى اختيارات الرئيس، فمن اختاره الرئيس صار خيارًا وحيدًا لا يصلح في البلاد طولاً وعرضًا أحد أن يحل محله! ومِن ثَمَّ تجد أن الكثيرين لا يرون فرقًا بين من يطالب بإعادة النائب العام السابق وبين من يؤيد استبعاده، ولكنه في الوقت نفسه يرى سدًا لذريعة الاحتقان الموجودة في مؤسسة القضاء أنه لا بأس من أن يُعين آخر عن طريق مجلس القضاء الأعلى "هذا مثل عارض والمقام لا يتسع للبسط فيه، ولكن لزم أن ننوه أن مطالبة أحد ما بالاستقالة رغم صلاحه للمنصب طلبًا للإصلاح بين الناس له نماذج شهيرة في الفقه الإسلامي وأن مجلس القضاء الأعلى الذي يقترح أن يتم اختيار النائب العام عن طريقه وفق الدستور الجديد غير نادي القضاة، بل هو مجلس في غاية التعاون مع الرئيس".

وإذا اختار الرئيس لمنصب في غاية الخطورة مَن هو أمين، ولكن قوته في المهمة التي وضع فيه تكاد تكون منعدمة فأغضب هذا الاختيار فئات من الناس واستثمر ذلك من استثمر فنَصح ناصح بإغلاق ذلك الباب والعدول عن ذلك الاختيار؛ فذلك عند البعض رجس من عمل الشيطان! وعلى هذا فقس... ومن يفعل ذلك -من ترك النصح أو النهي عنه- لا يدري أنه بفعله هذا يفتح الباب لئلا يجد الناس مدافعًا عن خبزهم ووقودهم وسائر احتياجاتهم؛ إلا من يخلط تلك المطالب بالمطالبة بالتغريب والعلمنة.

فيا قومنا... انصحوا الرئيس سرًّا وجهرًا، واعلموا أن النصيحة في الأمور العامة هي حق للناس عليكم وهي حق للرئيس عليكم، كما أن الاستماع إليها واجب عليه، وإذ نصحته نصيحة فقال: "أصبتم وأخطأت"؛ ففي هذا رفعة له، وإن جاء في أخرى فأجاب بما يروي الغليل رفعتم بذلك الحرج عنه وعن الناس أجمعين، وقطعتم الطريق على المشككين والمغرضين.

بقي أن أنبه في الجانب الآخر على أمر سبق أن أشرت إليه في مقالتي: "المقارنة بين نظام الإمامة والدولة الدستورية القانونية ذات المرجعية الإسلامية"، وهو أننا وإن كنا نطبق الثانية إلا أننا نطبقها بروح الأولى مما يوجب علينا أن نعترض على ما نراه خطأ في الوقت ذاته الذي نؤيد ونساند وننافح عن الصواب، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل سوف نفرد له دراسة خاصة -إن شاء الله-.

2- الرد على فتوى: "قتل المعارضِين!"

يعد اختيار الرئيس "محمد مرسي" لمنصب رئيس الجمهورية في مصر حالة جديدة على الواقع الإسلامي في أن يوجد لدينا رئيس يعلن رغبته في السعي لتطبيق الشريعة في ظل نظام دستوري قانوني، وهو ما جعل البعض يسقط أحكامًا استقاها من كتب السياسة الشرعية متغاضيًا عن الفروق بين ذلك النظام السياسي وبين النظام الدستوري الحالي، فإن الدستور وإن نص على عدم جواز مخالفة الشريعة فسيبقى اختلاف صلاحيات الرئيس بين النظامين، واختلاف شكل وصلاحيات المعارضة، إلى غير ذلك من الأمور..الدستور النصح أو النهي عنه-نة. باني.

وعدم إدراك هذه الفروق دفعت بعض الشيوخ إلى الإفتاء بتحريم التظاهر ضد الرئيس "مرسي"! مما دفع الرئيس "مرسي" شخصيًّا وجماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة إلى التبرؤ من فتواه، وكأن البعض لم يستفد من الدرس فقال كلامًا فأفتى بجواز قتل بعض رموز "جبهة الإنقاذ" واستدل على ذلك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فاقتُلوا الآخِرَ منهُما) (رواه مسلم)، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) (رواه مسلم)، وفي رواية: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أوْ يُفرِّقَ جماعتكم فَاقْتُلُوهُ) (رواه مسلم).

وقبل أن نرد على هذه الفتوى -وحتى لا نقع فيما وقع فيه صاحبها- فإننا نذكر أن: الأزهر قد قرر إحالة صاحب هذه الفتوى إلى المساءلة، وهذا يقتضي أن ننتظر ماذا سيقول فيما نسب إليه، وهل هو ثابت أم تم الحذف منه أو الإضافة؟! ولكننا هنا سوف نرد على هذه الفتوى على النحو الذي انتشرت به من أنها فتوى بقتل بعض رموز "جبهة الإنقاذ"؛ لأنهم يدعون إلى إسقاط النظام عملاً بالحديث المشار إليه.

ومن المعلوم أن الفتوى هي: "إسقاط الحكم الشرعي على الواقع المساوي له"، ومِن ثَمَّ فعند التعرض لها فعلينا أن نبحث في الأمور الآتية:

1- ما حكم الشرع فيمن دعا إلى إسقاط رئيس منتخب لقصور "يدعيه هو بغض النظر هل توافقه أم تخالفه"؟

2- ثم ما حال أولئك المسئول عنهم لنتمكن من إعطائهم الحكم المناسب؟

3- فإذا كان في الأمر عقوبة شرعية ما فهل تم استيفاء شروطها وانتفاء موانعها أم لا؟

4- وإذا تقرر أن إيقاع العقوبات من اختصاص الدولة فهل من المصلحة ذكر استحقاق شخص ما لعقوبة ما على العامة أم يمنع من هذا خشية الفتنة؟

فإذا رجعنا إلى تلك الفتوى وجدنا أنها قد أخلت بذلك كله! من عدة جهات:

أولاً: معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أوْ يُفرِّقَ جماعتكم فَاقْتُلُوهُ) وقوله: (فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ): أن هذا فيه الأمر بقتال مَن يقاتل الحاكم المُمكَّن -وليس في قتل آحاد الناس وإن ظلموا وألبوا الناس على الحاكم- فهو من باب قتال المفسدين في الأرض الذين لا يندفع فسادهم إلا بذلك، قال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة:32).

ولهم تفصيل مكانه كتب الفقه؛ إلا أنه يكفي للدلالة على هذا قول علي -رضي الله عنه- للخوارج الذين كفروا الصحابة واستحلوا دماءهم، ومع ذلك قال علي -رضي الله عنه- لهم: "لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله -تعالى-، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال"؛ فدل هذا على أن قتال هؤلاء لا يكون إلا لمن بدأ هو بالقتال، وأما من هم أفضل منهم حالاً ولهم بعض مطالب ومظالم فالاحتياط فيهم أوجب، وفي شأنهم قال -تعالى-: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9)، فلابد هاهنا من السعي إلى إصلاح ذات البين حتى إن بدأوا هم بالقتال.

وهذا يعني أنه لا مجال لقتل آحاد الناس بجريمة الدعوة إلى إسقاط الحاكم؛ ولو كان هذا في ظل فقه الإمامة، وما في كتب القوانين المعاصرة قريب من هذا فإنها تغلظ العقوبات بشأن ممارسة الإرهاب المسلح ضد الدولة وتقرر عقوبات أخف بشأن العنف السياسي بينما تحمي كل طرق التغيير السلمي مهما تطرفت في مطالبها.

فإذا ثبت أن الحُكم الذي بنيت عليه الفتوى ليس موافقًا لنصوص الكتاب والسنة فقد حسمت المسألة، ولكن يمكنك من باب التنزل في المسالة أن تبحث في باقي المسائل؛ لتعرف أنك إن سلمت جدلاً بصحة هذا الحكم فلا يمكنك قط أن تسلم بصحة هذه الفتوى.

3- إيران - الرئيس - الأزهر - المادة 219 - تعديل الدستور

مثلت العلاقات الخارجية محورًا من أهم المحاور التي تم البناء عليها تقييم جميع المرشحين في أول انتخابات رئاسية في مصر الثورة، وهذا شيء طبيعي حيث جرى العرف الدستوري المصري على تولي الرئيس لملف العلاقات الخارجية، وهو الأمر الذي بقي مستقرًا بعد إقرار الدستور الجديد.

وكانت أهم المحاور التي تمت مناقشتها:

1- محور العلاقات المصرية - التركية: وهو محور اتفق فيه جميع المرشحين -خاصة الإسلاميين منهم على الأقل- على ضرورة التقارب المصري التركي والاستفادة من التجربة التركية على اعتبار أنها تشبه التجربة المصرية في كثير من الأمور، كما أن جميع المراقبين يلاحظون محاولة عودة تركيا إلى الحضن الإسلامي الدافئ؛ مما يعني أن التقارب التركي لا يكتنفه أية محاذير.

2- محور العلاقات المصرية - الأمريكية والإسرائيلية: وقد تقاربت فيه الرؤى هو الآخر حيث اتفق الجميع على الرغبة في الخروج من التبعية، ولكن دون الوصول إلى القطيعة، وعلى الجانب الإسرائيلي اتفق الجميع على أن المطلوب الآن تعديل وليس إلغاء معاهدة السلام.

3- محور العلاقات المصرية - الإيرانية: وهو المحور الأكثر سخونة رغم وجود أكثر من مرشح إسلامي ينتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين التي دائمًا ما تفاخر أن من ضمن منجزاتها التاريخية هو ملف التقارب بين السنة والشيعة؛ إلا أن هذا المحور على وجه الخصوص قد صب في صالح الدكتور "محمد مرسي" دون بقية المرشحين للأسباب الآتية:

أ- تَميز الجناح الذي ينتمي إليه الدكتور "مرسي" داخل الإخوان بمواقف متحفظة تجاه الشيعة، ثم أكد الدكتور "مرسي" ذلك في حواراته التلفزيونية كما أكده بصورة أوضح بكثير في حواراته المغلقة.

ب- على الجانب الآخر كان وجود القيادي المنشق عن الإخوان الأستاذ "كمال الهلباوي" في صفوف المؤيدين للدكتور "عبد المنعم أبو الفتوح"، مع ما كان يردده "الهلباوي" من تمسكه بالتقارب السني الشيعي بدرجات واسعة عبئًا على "أبي الفتوح".

ج- وأما الدكتور "العوا" فكانت له الكثير من الحوارات المسجلة التي دافع فيها عن بعض مواقف الشيعة، ورغم تقديمه تفسيرات لها إلا أن الجمهور سواء من الخاصة أو العامة بقي في نفسه أشياء منها، وفي وجهة نظري أنه لولا هذه القضية لكان للدكتور "العوا" شأن آخر في انتخابات الرئاسة.

نجح الدكتور "محمد مرسي" في انتخابات الرئاسة، وجاء الاختبار الأول في انعقاد مؤتمر "قمة عدم الانحياز في إيران"، وكانت "مصر" هي رئيسة الدورة المنتهية و"إيران" هي التي سوف تتسلم الرئاسة منها، ونجح الرئيس "محمد مرسي" في هذا الاختبار غاية النجاح حيث حضر وألقى كلمة ترضَّى فيها على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما قابله التليفزيون الإيراني بجريمة نكراء تضاف إلى جرائمهم حيث امتنع المترجم من ترجمة هذه العبارات، بل عند إذاعة كلمة الرئيس "مرسي" في كل التسجيلات التالية تم حذف هذا الجزء منها! وفوق هذا قام الرئيس الإيراني في تصرف غير مسئول بتضمين كلمته ذكر الإمام الغائب في كلمة موجهة لأناس معظمهم قد عافاه الله بفضله من تلك الترهات!

ثم جاء الاختبار الثاني بانعقاد "قمة منظمة التعاون الإسلامي في القاهرة"، وتوقع الجميع أن تتم دعوة الرئيس الإيراني لبضع ساعات كالتي قضاها الرئيس "مرسي" في إيران، وأن تقتصر الزيارة على الجانب البروتوكولي إلا أن الأمر اتسع بعض الشيء فصار مكان الاستقبال حميميًّا، ثم رتبت للرئيس الإيراني زيارة لـ"مسجد الحسين"، وهي زيارة ما كان ينبغي أن يُوافق عليها في ظل الرمزية الطائفية لها.

وقبْلها قام الرئيس الإيراني بزيارة "شيخ الأزهر"، وهي الزيارة التي أثلجت وقائعها جميع محبي صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته وأمهات المؤمنين، حيث:

1- تكلم شيخ الأزهر باعتباره إمامًا لأهل السنة والجماعة.

2- ومن هذا المنطلق تحدث عن حقوق السنة المهدرة في إيران.

3- وتحدث عن دعم إيران للنظام السوري.

4- وحذر من محاولة تلاعب إيران بأمن الخليج.

وأهم من ذلك كله:

5- حذر من المد الشيعي في مصر.

6- طالب إيران بإصدار فتاوى تدين سب الصحابة عامة والسيدة عائشة -رضي الله عنها- خاصة.

وفي النهاية ذكَّر "شيخ الأزهر" الرئيس الإيراني أن كل محاولات التقريب التي تمت في الماضي استفادت منها إيران دون أن تتخلى عما عندها من جرائم في حق الصحابة -رضي الله عنهم-، وحاول الرئيس الإيراني أن يتنصل واستعمل إحدى درجات التقية حينما ادعى جهله بهذه الأمور!

وكانت المفاجأة الثانية: أن خرج الشيخ "حسن الشافعي" في المؤتمر الصحفي ليعلن هذه التفاصيل؛ مما أزعج الرئيس الإيراني غاية الإزعاج وكاد ينسحب من المؤتمر.

إن هذا الموقف يؤكد أن "الأزهر" يدرك تمامًا في تلك المرحلة التاريخية خطورة التغلغل الشيعي، وأنه يدرك أهمية قيادة مصر للعالم السني، ويؤكد أن الأزهر بالفعل مقتنع تمام الاقتناع بالمادة (219) من الدستور الجديد والتي شرحت مبادئ الشريعة الإسلامية وقيَّدتها بمذاهب أهل السنة والجماعة.

وقد ذكرت بعض القوى -في أثناء حوارهم مع قيادات حزب النور- التي تغير موقفها من هذه المادة من القبول إلى الرفض أن رفضهم قد بني على ما صوره لهم البعض أن مصطلح أهل السنة والجماعة يعني الإخوان والسلفيين، وأما إذا تبين أن المراد منه إخراج المذاهب الغالية كالشيعة فقد عادوا إلى قبول هذه المادة.

وبهذه المناسبة نريد أن نبين موقفنا من تغيير الدستور حيث استشكل البعض أن توافق "الدعوة السلفية" و"حزب النور" على مبدأ تغيير الدستور، ومن المعلوم أن أهم ما تطالب به جبهة الإنقاذ هو تعديل المادة (219).

والجواب من وجوه:

أولها: الفقرة السابقة.

الثاني: حينما أعلن الرئيس وقبل أن يتم الاستفتاء على الدستور أنه في حالة الموافقة سوف تشكل لجنة فورًا لمناقشة المواد الخلافية فماذا كان ينتظر منا؟

الثالث: أن بعض مواد الدستور تحتاج إلى صياغة أفضل فإذا كان البعض يتشكك في مدى دلالة مادة مجانية التأمين الصحي في الدستور مثلاً، فهذا الأمر لم يكن يمكن إيقاف الدستور من أجله، ولكن يقبل دراسة التعديل -وهذا على سبيل المثال لا الحصر-.

الرابع: أن القبول بمبدأ دراسة التعديلات لا يعني أن "حزب النور" ملزم بقبول كل ما يعرض.

الخامس: أننا لدينا أمل كبير أنه إن تم الحوار وتم الاتفاق على تجويد ما يحتاج إلى تجويد من مواد الدستور، وفي ظل تنامي الاقتناع بضرورة وجود قيد أهل السنة والجماعة في الدستور، وأهم من ذلك كله "إصرار الأزهر" على تلك المادة - أن المعارضة لهذه المادة سوف تخفت -بإذن الله تعالى-.

السادس: أن هناك اتفاقًا أن تعديل الدستور لابد أن يتم بطريقة دستورية، وبالعرض على مجلس الشعب ثم الاستفتاء، وبفرض مرور ما لا يقبل عندنا النقاش فسوف ننصح الشعب بالتصويت عليه بـ"لا".