الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 09 مارس 2011 - 4 ربيع الثاني 1432هـ

الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون

كتبه/ محمد القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الأحداث التي تموج بها البلاد تتوالى كالبحر الخضم تتلاحم أمواجه، وتتابع نوباته، والعبد لابد أن يستبصر بنور القرآن في ظل هذه الفتن المتلاطمة حتى يرى مواضع الأقدام، ويزن الخطوات التي يخطوها بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن كانت موافقة أقدم، وإن لم تكن كذلك أحجم.

ومِن هذه الآيات التي فيها الكثير مِن الدروس والعبر، والتي تعبر عن كثير من المعاني الواقعية هذه الآية المباركة التي بين أيدينا؛ فالظلم والطغيان هو مِن أهم أسباب فوات النعم وزوالها، والظلم المراد أولاً بالآية كما فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الشرك، وهذا لا يعني أن أنواع الظلم الأخرى لا تدخل في الآية، بل هي داخلة في عمومها، وهذا ما فهمه الصحابة -رضوان الله عليهم- عندما نزلت هذه الآية، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام:82)، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (متفق عليه).

فالشرك هو أعظم أسباب زوال الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة، وهو أنواع، منه: ما يتعلق بالربوبية والأسماء والصفات، وهذا شرك في الاعتقاد، ومنه: ما يتعلق بالألوهية، وهذا يتعلق بصرف العبادة لغير الله.

ومِن أنواعه المنتشرة في البلاد الشرك في الحكم، قال -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (يوسف:40)، فإن مِن معاني العبودية أن نلزم أنفسنا كأفراد وكمجتمع بما أنزله الله في كتابه مِن تشريعات وأحكام، والله -تعالى- يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65).

فإلزام الناس في التشريع العام ينبغي أن يكون بما ألزمهم الله به في كتابه أو بما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا حق لله -تعالى- وحده لا يشاركه فيه غيره، فتضييع الشريعة وإلزام الناس بالتحاكم إلى القوانين الوضعية في: أموالهم، ودمائهم، وأعراضهم مِن أعظم أسباب الفتن التي تموج بها البلاد والعباد في هذه الأيام؛ ولذا وجب على كل من يأتي ليحكم البلاد والعباد أن يقوم بتفعيل "المادة الثانية مِن الدستور"، ومراجعة كافة التشريعات المخالفة للشريعة وصياغتها مِن جديد بصورة توافق الشريعة، حتى يُزيل التناقض الواقع في التشريعات والقوانين، كما يرفع الإثم عن أجهزة الدولة المختلفة في مخالفة شرع الله والحكم بغير ما أنزل الله، وهو أعظم سبب لحصول النقم والبلاء كما بينَّا.

وهناك أنواع أخرى من الشرك أيضًا ينبغي أن نتخلص منها: كشرك الرضا بالكفر؛ فإن المسلمين بالرغم من أنه لم يُعرف في التاريخ سماحةً مثل سماحتهم ولا عدل في عدلهم في تعاملهم مع الآخرين -كما هو حال المسلمين في التعامل مع أهل الكتاب، ومع غيرهم-فقد قال -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8)، فبالرغم من عدلهم فإنهم لا يرضون بالكفر ولا يحبونه، ولا يرفعونه شعارًا لهم؛ فلا يقبل المسلمون شعار الهلال مع الصليب؛ لما يترتب عليه مِن تميٌّع لقضايا الإيمان والعقيدة، فإنه لا مساواة في دين الله بيْن مَن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وبين مَن يُكذب بذلك، قال -تعالى-: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم:35-36)، وقال -تعالى-: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر:20).

وقال -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19)، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، إلى غير ذلك مِن الآيات التي توضح هذا المعنى وتؤكده..

فهذه أنواع من الظلم الأكبر الذي بسببه يضيع على البلاد والعباد حصول الأمن والهداية، ولكن هناك أنواع من الظلم أخرى تدخل في عموم قوله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ).

فظلم العباد والتعدي على الدماء والأعراض والأموال من أهم ما نحن فيه الآن مِن الفتن، فالظلم ظلمات يوم القيامة، والظلم تُعجَّل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة، فإن الله -تعالى- يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)، وهذه من الدروس المهمة التي أفرزتها الأزمة فإن الله يمهل ولا يهمل، فالذين أذاقوا البلاد والعباد الويلات أذاقهم الله مِن كأس الخزي في الدنيا من قبل أن يرجعوا إليه فيحاسبهم على ما قدموا حسابًا لا ينفعهم معه سلطانهم ولا أتباعهم ولا أموالهم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88-89).

وقد رأينا كيف يتساهل الظلمة في أمر الدماء والأعراض! حتى رأينا منهم مَن يدفع الأموال الطائلة للبلطجية من أجل القتل وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض في صورة مِن صور الظلم والتعدي التي لم ير الناس مثلها، ولم تكن المظالم في الأعراض والدماء فقط؛ بل كان من أعظم المظالم أكل أموال المسلمين العامة التي يسمونها في الواقع المعاصر بأموال الدولة، فأكل أموال الدولة مِن الغلول الذي حرمه الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أعظم حرمة من أكل أموال الناس الخاصة، وقد استشرى ذلك وانتشر حتى صارت أموال المسلمين نهبة لكل فاجر وظالم، وكل ذلك يدخل في المظالم التي أدت إلى ما نشاهده اليوم من الانفجار الهائل الذي يشبه انفجار البركان، ومِن الثورة الهادرة التي كانت أولاً لشباب "الفيس بوك"، فشكرًا لهم..

ثم تطورت لتشمل كل شباب مصر، ثم تطورت لتشمل كل فئات الشعب، ولابد أن نشير هنا إلى أنه يدخل في ذلك ظلم العباد بعضهم لبعض، فكأن ثقافة الظلم كانت هي الثقافة السائدة في هذا العهد البائد -بإذن الله-، فقد كان الأمر يشبه كثيرًا حياة الغابة، فمن قدر على شيء مِن مال أخيه أخذه دون أن يلتفت إلى حله أو حرمته، وكأنه لن يحاسب، فكلنا ينبغي أن يراجع نفسه فمن كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله اليوم مِن قبل ألا يكون درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات، فإنه كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) (متفق عليه).

ومِن معاني الظلم التي تشملها الآية ظلم العبد نفسه بالمعصية، المعاصي التي انتشرت في البلاد في طولها وعرضها، وأصبحت لها أبواق وأماكن معدة ومرخصة لفعل ما يغضب الله بالليل والنهار، حتى ظهر فينا أنواع من الموتى يسيرون بين الأحياء، فالعبد ما زال يعصي الله حتى يموت قلبه، فالذنب على الذنب يعمى القلب؛ ولذا وجب علينا إن أردنا تغييرًا حقيقيًا أن نغيِّر حالنا مع الله، وأن نتوب إلى الله توبة جماعية حُكامًا ومحكومين، توبة صادقة استجابة لقوله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31).

لذا كان مِن الدروس المهمة التي ينبغي أن نعيها جيدًا مِن الآية، ومِن واقع الأزمة أن نهتم بأمر ديننا قبل أن نهتم بأمر دنيانا، فتحقيق معاني الإسلام والإيمان والإحسان للفرد والمجتمع هي الطريق للتغير الحقيقي الذي يحبه الله -تعالى- ويرضاه، والذي قال -تعالى-: عنه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، فتحقيق العبودية لله -تعالى- بإقامة الفرائض والمتابعة بالنوافل هي الطريق إلى الولاية الحقيقة لله -تعالى-، كما قال -تعالى- في الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ.. ) (رواه البخاري).

وقال -تعالى-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)، فكل مسلم تقي هو لله ولي، فإذا تحققت هذه المعاني فينا تغيرت موازين القوى بحول الله وقوته؛ الذي كل الأمور بيده ومردها إليه، قال -تعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) (غافر:51)، فالمُلك ملكه، والأمر أمره، ومرد الأمور إليه؛ فينبغي أن تتعلق القلوب به وأن تتوكل عليه، فإن من توكل على الله كفاه الله أمر الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:3)، يعني: كافيه، فالتوكل على الله في إقامة الدين وسياسة الدنيا به هو الهدف الأسمى لأي تغيير مأمول، وأي تغير حقيقي لا يمكن أن يقوم إلا على دعامة الإيمان والعمل الصالح.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الأمن والأمان نعمة مِن الله، شعرنا جميعًا بقدرها وبأهميتها، وهي نعمة امتن الله بها علينا فقال -تعالى-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:3-4)؛ ولذا وجب علينا أن نحفظ نعم الله بالشكر، كما قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم:7)، فحفظ الأمن والاستقرار يكون باستعمال النعم في مرضاة الله، وليس بمحاربة الله بما وهبنا مِن نعم، وليس الأمن في الدنيا فقط هو المقصود بالذكر، بل الأمن في الآخرة أعظم وأهم، فالذي يؤمنه الله على الحقيقة هو مَن يؤمنه عندما تلحق الناس المخاوف.

والهداية التي في الآية في الدنيا لمن استبصر بالوحي وأخذ القرآن نبراسًا له؛ عندئذٍ يرى الأمور على حقيقتها ولا تختلط عليه الأحداث؛ فإن كثيرًا مِن الناس لا يفهم ولو جاءته كل آية حتى يرى العذاب الأليم، كما قال -تعالى-: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، فكم يحتاج العبد إلى أن يستبصر بغيره، وأن يعتبر بغيره، فكما قالوا: "مَن لم يعتبر بغيره جعله الله عبرة لغيره"، و"السعيد من وعظ بغيره"، والهداية التي في الآخرة أهم وأعظم.

نسأل الله أن يجعلنا مِن أهلها، وأن يرفع عن بلادنا البلاء والفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.