كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن عبد الله بن سَلامٍ -رضي الله عنه- قال: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ، انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
مجمل الوصية(1):
وصية عظيمة، جمعت جَلال الدين وجَمال الإسلام؛ لتؤسس منظومة المجتمع المتآخي الراقي، المتكاتف؛ مجتمع العطاء والرحمة والسخاء، الذي يتَّسم بمكارم الأخلاق ونُبل المعاملة. هذه الوصية ينقلها لنا الصحابي الجليل عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ -رضي الله عنه-، فيقول: "لَمَّا قَدِمَ" أي: جاء وهاجَر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ "انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ" أي: اتَّجَه النَّاسُ ناحيته، وذَهَبوا إليه مُسرعين. "وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ؛ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ"، أي: رأيتُ مَلامِحَه "عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ"؛ لِما يَبْدُو عليه مِنَ النُّورِ والجَمالِ والهَيْبَةِ الصَّادِقَةِ. "فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ...). وذكر الخصال التالية التي بها يتربَّى النَّاسُ على الفَضائلِ والمكارمِ حتَّى يكونَ المجتمعُ مُتحابًّا متعاونًا، وبشَّر من حافظ عليها بالمكافأة العظمى، وهي الجنة.
الخصلة الأولى: (أَفْشُوا السَّلَامَ):
- السَّلامُ عَلَيْكُمْ: جملة قصيرة المبنى، عظيمة المعنى، تحمل في مضامينها رسالة محبة، وعنوان مودة، يحلو بها اللسان، يرسل قائلها إلى كل من سمعها الأمن والأمان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) (رواه مسلم).
- السَّلامُ عَلَيْكُمْ: تحية من عند الله، وعبادة وثواب، وسمة المسلم التي يعلو بها على من سواه، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان، أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال: (أَوْلَاهُمَا بِاللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- السَّلامُ عَلَيْكُمْ: مِنْ مُوجِبات المغفرة والرحمة، فعن هانئ بن يزيد -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: (إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلَ السَّلَامِ وَحُسْنَ الْكَلَامِ) (رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني).
الخصلة الثانية: (وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ):
(أَفْشُوا السَّلَامَ)، إحسان بالقول، و(أَطْعِمُوا الطَّعَامَ)، إحسان بالفعل، وترسيخ لقيمة البذل والتآلف، واستدعاء لمعاني الأخوة وحسن الجوار. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام خير؟ قال: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) (متفق عليه).
- (إِطْعَامُ الطَّعَامِ): يشمل الصدقة والهدية والضيافة ابتغاء وجه الله، بل يشمل فعله سائر الدواب والحيوانات. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لَأَجْرًا؟ فقال: (فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (متفق عليه).
- (إِطْعَامُ الطَّعَامِ): بأيِّ مقدار، ولو كان شق تمرة، فإنها تَرْبُو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ) (متفق عليه).
الخصلة الثالثة: (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ):
- (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ): وهم كل من تربطك بهم رحم أو قرابة، من جهة الأب أو الأم، وحقهم في البذل والعطاء مقدم على اليتامى والفقراء؛ قال الله -سبحانه-: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (البقرة: 215).
- (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ): الأرحام مِنْ نِعَم الله، فهم سند في الحياة متين، وعضد في النوائب معين، هم سرور في الحزن، وعز في الذل، وسعة في الضيق، وجبر نفس في المكسور. كان العرب يتناشدون بالرحم ويعظمونها؛ فأنزل الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: 1).
- (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ): تكون بالقول الطيب، والوجه النيِّر، وتعاهدهم بالزيارة والنصح، ومسانَدة المكروب، وعيادة المريض، والصفح عن عثراتهم، واجتناب الإضرار بهم قولًا أو فعلًا، فالثواب عليهم مضاعَف؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
الخصلة الرابعة: (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ):
- (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ): وقت عظيم، تخلو فيه النفس وتناجي خالقها، في أعظم زمن لإجابة الدعاء. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟) (متفق عليه).
- (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ): فأهل القِيامِ هم أصحاب الشَّرفِ والجَمالِ والقَبولِ بين الناس؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ) (رواه البيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني). وسُئِلَ الحسن البصري -رحمه الله-: "ما بالُ المتَهجِّدين بالليل أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خَلَوْا بالرحمن -جل وعز-، فألبسهم نورًا من نوره".
- (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ): فأهل القِيامِ هم أكثر الناس تَأَهُّلًا لدخول الجنات؛ قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 15-18).
المكافأة على الخصال: (تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ):
- (تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ): وصف بليغ طيب ناطق بالحفاوة، التي هي عطاء الله الخالص لخواص الناس، الذين أمضوا حياتهم في طريق السلام والإحسان، فالجزاء من جنس العمل؛ قال الله -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل: 30). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا)، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قَرَّبَ إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قَرَّبَ إليها من قول وعمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الوصية من أوائل أقواله -صلى الله عليه وسلم- أولَ مَقْدَمِه المدينةَ؛ ليؤكد على أهمية التكافل في المجتمع، وتقوية لحمته، ورَصِّ صفوفه قلبًا وقالبًا، وأن يَحْمِلَ الغنيُّ الفقيرَ، والميسورُ المعسرَ، وأن يَبْذُلَ المستطيعُ ما يستطيع من كلمة طيبة، وسلوك نَدِيٍّ، وصلة موصولة إلى الدرجات العلا، الغاية التي يسعى إليها كلُّ مسلم، ويتمنَّى بلوغَها كلُّ عاقل، وهي الجنة.