الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 - 24 ربيع الأول 1447هـ

غزة في ذاكرة التاريخ (9) غزة مقبرة التتار

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد ذكرنا في مقالنا السابق كيف سَيْطَر التتار على بلاد الشام، وكيف سقطت مدينة بغداد، وكان ذلك عام 656هـ، وقد نهب التتار البلاد كلها حتى وَصَلُوا إلى مدينة غزة، وقد عزموا على الدخول إلى مصر، ثم سلَّطْنا الضوء على الخطوات التي اتخذها قطز لمواجهة الهجوم التتري.

رسالة هولاكو إلى أهل مصر:

أرسل هولاكو إلى قطز رسالة مَلِيئَة بالتهديد والوعيد، وهنا جمع قطز مستشاريه وعرض عليهم الأمر، فمنهم من اقترح الاستسلام له؛ حيث إنه يملك من الصين إلى حدود مصر، ولا طاقة لأحد بهؤلاء الذين لم يَثْبُتْ أمامهم جيش، ومنهم من طالب بالجهاد، ومنهم من اقترح قتل الرسل كالظاهر بيبرس، فقرر قطز -بعد أن استشار مجلسه العسكري- أن يَقْتُل رسل هولاكو الأربعة الذين جاءوا بالرسالة التهديدية، وأن يُعَلِّق رؤوسهم على باب زويلة في القاهرة؛ حتى يراها أكبر عدد من المسلمين في مصر، وكان يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخشى التتار، ورفع من معنويات الشعب بذلك، والإعلان للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيرًا عن أهل البلاد الذين قابلوهم من قبل (مع أن الرسل لا تُقتل في الإسلام).

إعلان النفير العام:

أعلن قطز النفير العام، ووَضَع خطة تختلف عن كل من سبقه من أمراء وحكام، فكل المدن والدول التي سقطت أمام المغول كانوا ينتظرون قدوم المغول ويَتَحَصَّنُون في بلادهم، ثم يقومون بواجب الدفاع، أما قطز فرأى أن مبدأ التحصن ليس في محله، ولا بد من مواجهتهم قبل وصولهم إلى الأراضي المصرية، ولذا اختار أن تكون المواجهة على أرض فلسطين بمنطقة عين جالوت.

بداية المواجهات بين المسلمين والتتار على أرض غزة:

أخذ قطز يُحَرِّض المسلمين على القتال، وحذرهم من عاقبة الهزيمة وما جرى للأقاليم من الدمار والقتل والسبي، وأخذ العلماء يَحُثُّون الناس على الجهاد، وقد لعب سلطان العلماء العز بن عبد السلام -رحمه الله- دورًا كبيرًا، وتحرك بيبرس -رحمه الله- على رأس جيش إلى مدينة غزة في شعبان عام 658هـ، وانتصر على الحامية المغولية فيها، وفرَّ التتار من أمام المسلمين، وسَيْطَر المسلمون على مدينة غزة، وكان لهذا النصر أثر إيجابي على المسلمين، وسلبي على المغول، ثم تبعه قطز وأقام بغزة يومًا، ثم تحرك القائدان في إثر التتار، حتى التقيا مع التتار في سهل عين جالوت.

إذًا الانتصار الأول كان في غزة، ومقبرة التتار الأولى كانت مدينة غزة، فانتصار غزة كان مقدمة بين يدي عين جالوت.

وقعت معركة عين جالوت في شهر رمضان عام 658هـ، ووَضَع قطز خطة عسكرية حكيمة، فقد قام بإخفاء القوات الرئيسية بين التلال، ولم يُظْهِر للعدو إلا المقدمة التي يرأسها بيبرس، وهنا ابتلع قائد المغول كَتْبُغَا الطُّعْم بكل سذاجة، وهجم بكل قواته على المقدمة ظنًا منه أن هذا هو جيش المسلمين، وهنا -بحسب الخطة- بدأ بيبرس يَتَقَهْقَر ويتراجع وسط التلال، ثم فجأة ظهرت القوات الإسلامية وتم تطويق جيش المغول، ووقع القتال الشديد بين الطرفين، وفي البداية انكسرت ميسرة المسلمين، وحدث بعض الاضطراب في جيش المماليك، وهنا ألقى قطز بنفسه وسط الجيش وأخذ يصرخ بأعلى صوته: "وإسلاماه"، ويدعو: "اللهم انصر عبدك قطز على التتار"، وأخذ يُحَرِّض المسلمين على القتال.

وبعد عدة ساعات تَفَوَّق المسلمون على التتار وبدأ التتار في الهرب والفرار، وهنا نزل قطز من على فرسه ومَرَّغ وجهه في التراب تذللًا لله، وصلى ركعتين، واستمر بيبرس -رحمه الله- في مطاردة فلول التتار واستطاع اللحاق بكثير منهم، وهزمهم هزيمة مُنْكَرَة.

مقتل فرس قطز:

ثم صَوَّب أحد التتار سهمه نحو قطز فأخطأه ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرس، وتَرَجَّل قطز على الأرض وقاتل على رجليه، وما تردد وما نَكَص على عقبيه وما حَرَص على حياته. ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل على تلك الحال فجاء إليه مسرعًا وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز امتنع وقال: "ما كنتُ لأحرم المسلمين نفعك".

هذا وقد زار الظاهر بيبرس -رحمه الله- مدينة غزة عدة مرات، تارة لخوض بعض الحروب، وتارة للقنص والصيد، وهكذا لعبت غزة دورًا كبيرًا، وكانت هي بداية شعاع الأمل وستظل كذلك، فلا تَفْقَدُوا الأمل فالأيام دول.