كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) (رواه مسلم).
وقد جاء في سبب الوصية: عن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعنا وائل بن حُجر، فأخذه عدوٌّ له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي فخُلِّيَ سبيلُه، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرته أن القوم تحرَّجوا أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي، قال: (صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ) (أخرجه أبو داود، وصححه الألباني).
مجمل الوصية:
الأخوة الإسلامية ليست مجرد علاقة شخصية، ولكنها رابطة متينة، قائمة على أساس من التَّقوى وحُسن الخُلق، والتعامل بأرقى صوره، وهي في الوقت ذاته معلم بارز، ودليل واضح على تلاحم لبنات المجتمع ووحدة صفوفه، وحسبك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ربط الأخوة بالإيمان، وجعل رعايتها من دلائل قوته وكماله، ولا عجب حينئذٍ أن يأتي الإسلام بالتدابير الكافية التي تحول دون تزعزع أركان هذه الأخوَّة. وفي ضوء ذلك جاءت هذه الوصية العظيمة تنهى المؤمنين عن جملة من الأخلاق الذميمة، والتي من شأنها أن تُعكِّر صفو الأخوة الإسلاميَّة، وتزرع الشحناء والبغضاء في نفوس أهلها، وتُثير الحسد والتدابر، والغش والخداع، وأخلاقًا سيئة أخرى جاء ذكرها في الحديث.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَحَاسَدُوا):
- الحسد هو تمنِّي زوال نعمة المحسود، وإن لم يحصل للحاسد مثلها، وقد يُقال: تمنِّي عدم حصول النعمة لغيره. رويَ في بعض الآثار الإلهية: "الحاسد عدوُّ نعمتي، متسخِّط لفعلي، غير راضٍ بقسمتي التي قسمتُ لعبادي".
- الحسد أول ذنب وقع في السماء وفي الأرض: قال -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدوا لِآدَمَ فَسَجَدوا إِلَّا إِبْليسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طينًا . قالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَومِ القِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَه إِلَّا قَليلًا) (الإسراء: 61-62)، وقال -تعالى-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقينَ) (المائدة: 27).
- من كلام العلماء والصالحين في التحذير من الحسد: قال عمر -رضي الله عنه-: "يكفيك من الحاسد أنه يَغتَمُّ وقتَ سرورك". وقيل: "ثلاثة لا يَهنأ لصاحبها عيش: الحقد، والحسد، وسوء الخُلق"، وقال أعرابي: "قاتل الله الحسد، ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله".
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا تَناجَشوا):
- النجش: اشتقاقه من نَجَشتُ الصيدَ إذا أثرته، كأن الناجش يُثير كثرة الثمن بنجشه، والمناجشة: أن يزيد في السلعة -أي: في ثمنها- في المناداة، وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد نفع البائع، أو الإضرار بالمشتري.
- حكم النجش: قال العلماء: "النجش في البيع ممنوع حرام، ويأثم فاعله، وإن كان معروفًا بذلك أُدِّب، وهو أن يعطي الرجل ثمنًا في سلعة ليس له قصد في شرائها، بل ليقتدي به ويُغرِّيَ غيره". وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا) (رواه مسلم)؛ كما أنه تعاون على الإثم، قال -تعالى-: (وَلا تَعاوَنوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوانِ) (المائدة: 2).
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا تَباغَضوا ولا تَدابَروا):
- البُغض ضِدُّ الحُبِّ، فلا تتعاطوا أسباب البغضاء؛ فالبغض حرام إلا في الله -تعالى-؛ فإنه واجب، ومن كمال الإيمان: كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ) (أخرجه أبو داود، وصححه الألباني).
- التدابر هو التهاجر والجفاء، فلا يَهجُر أحدكم أخاه، وإن رآه أعطاه دَبْرَه أو ظهره: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ لِمسلم أن يَهجُرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يَلتقيان فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخَيرُهما الذي يَبدأ بالسلام) (رواه البخاري).
- والواجب على المسلمين أن يَسعَوا ويُسارِعوا في الإصلاح بين المتهاجرين منهم: قال -تعالى-: (إِنَّمَا المُؤْمِنونَ إِخْوَةٌ فَأَصلِحوا بَينَ أَخَوَيكُمْ ? وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرحَمونَ) (الحجرات: 10).
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا يَبِعْ بَعْضُكمْ على بَيعِ بَعْضٍ):
- وهو أن يقول الرجل لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو خيار الشرط: افسخ لأبيعك خيرًا منها بمثل ثمنها، أو مثلها بأنقص، ومثل ذلك الشراء على الشراء، كأن يقول للبائع: افسخ البيع لأشتري منك بأكثر، وقد أجمع العلماء على أن البيعَ على البيع والشراءَ على الشراء حرامٌ.
- وفي بعض الروايات: (ولا يَسُمْ على سَومِ أخيه)، وهو: أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقداه، فيقول آخر لصاحبها: أنا أشتريها بأكثر، أو للراغب: أنا أبيعك خيرًا منها بأرخص، وهذا حرام بعد استقرار الثمن، بخلاف ما يُباع فيمن يزيد فإنه قبل الاستقرار.
- وفي بعض الروايات: (ولا يَخطُبَ الرَّجلُ على خِطبَةِ أخيه، حتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه أو يَأذَنَ له الخاطِبُ). قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: "هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم الخِطبة على خِطبة أخيه، وأجمعوا على تحريمها إذا كان قد صُرِّح للخاطب بالإجابة، ولم يَأذَن، ولم يَترُك... واتَّفقوا على أنه إذا تَرَكَ الخِطبة رغبة عنها، وأذِنَ فيها، جازت الخِطبة على خِطبتِه، وقد صُرِّح بذلك في هذه الأحاديث" (انتهى باختصار).
الزموا ميزان التفاضل في الإسلام:
- لما حذَّرهم من الأخلاق والمعاملات الرذيلة، جاء التحذير أيضًا من تحقير المسلم بناءً على المظاهر الدنيوية: فقال -صلى الله عليه وسلم-: (التَّقْوَى هَاهُنَا -ويُشيرُ إلى صَدرِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ-. بِحَسبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أن يَحقِرَ أخاه المُسلِمَ). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ) (رواه مسلم). وقال -تعالى-: (إِنَّ أَكرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ) (الحجرات: 13). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفَخرَها بالآباءِ، مؤمنٌ تَقِيٌّ، وفاجرٌ شَقِيٌّ، أنتم بَنو آدَمَ، وآدَمُ مِن تُرابٍ، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فَخرَهم بأقوامٍ، إنَّما هم فَحمٌ مِن فَحمِ جَهنَّمَ، أو لَيَكونُنَّ أهونَ على اللهِ مِنَ الجِعلانِ التي تَدفَعُ بأنفِها النَّتِنَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وكونوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا):
- تعاملوا وتعاشروا بمعاملة الأخوة والمودة، والرفق والشفقة والملاطفة، والتعاون في الخير، مع صفاء القلوب والنصيحة بكل حال: قال -تعالى-: (إِنَّمَا المُؤْمِنونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10). وقال -تعالى-: (وَاذْكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُمْ فَأَصبَحتُمْ بِنِعمَتِه إِخْوانًا) (آل عمران: 103). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه، لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسِه مِنَ الخَيرِ) (متفق عليه).
- الإسلام علَّم البشرية كيف تكون الأخوة: عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: لَمَّا قَدِمنا المَدينَةَ، آخى رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيني وبَينَ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقالَ سَعدُ بنُ الرَّبيعِ: إنِّي أكثَرُ الأنصارِ مالًا، فأقسِمُ لكَ نِصفَ مالي، وانظُرْ أيَّ زَوجَتَيَّ هَويتَ نَزَلتُ لكَ عَنها، فإذا حَلَّتْ تَزَوَّجتَها. قالَ: فقالَ له عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجَةَ لي في ذلكَ، هل مِن سوقٍ فيه تِجارَةٌ؟ قالَ: سوقُ قَينُقاعٍ. قالَ: فَغَدا إلَيهِ عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ وسَمنٍ، قالَ: ثُمَّ تابَعَ الغُدوَّ، فَما لَبِثَ أن جاءَ عبدُ الرَّحمنِ عليه أثَرُ صُفرَةٍ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (تَزَوَّجتَ؟) قالَ: نَعَمْ، قالَ: (ومَن؟) قالَ: امرَأَةً مِنَ الأنصارِ، قالَ: (كَم سُقتَ؟) قالَ: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ -ثَلاثَةَ دَراهِمَ وثُلثٍ-، فقالَ له النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أولِمْ ولو بشاةٍ) (رواه البخاري).
فاللهم ألِّف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتَهم، وأصلح ذاتَ بينهم، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم.