كتبه/ سالم أبو غالي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهنيئًا لمن جعل من رمضان بداية جديدة، لا نهاية، وسار في درب الإيمان والعمل الصالح بعد أن أفلتت شمس أيامه المباركة.
هو ذاك الذي لا يرى في رمضان سوى نقطة انطلاق نحو الطاعة المستمرة، لا يعرف في سيره سوى الاستمرار في النهج القويم الذي يرضي الله، امتثالًا لقوله -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود: 112). وقد قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، ثم قرأ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)"، فالمؤمن لا يتوقف عن الطاعة حتى يلقى ربه.
هنيئًا لمن حوَّل رمضان من موسم عبادة إلى نمط حياة؛ لا ينتظر عامًا آخر ليجدد عهده، بل جعل العهد مع الله باقيًا، وكان صدقه معه دائمًا، كما أمره الله -تعالى-: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)، فلا يزال في سعيه مداومًا عليه، ولا يكل عن المضي في طريق التقوى والإيمان، مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) (متفق عليه). وقد قيل لأحد الصالحين: "إن قومًا يجتهدون في رمضان ثم يتركون العمل بعده، فقال: بئس القوم، لا يعرفون الله إلا في رمضان".
هنيئًا لمن أدرك أن الإيمان لا يتوقف مع غروب شمس آخر يوم في رمضان، بل يظل حيًا في قلبه، ينمو ويزدهر، ويظل الله يقبل توبة عباده في كل لحظة من لحظات حياتهم، فالتوبة في يده، وغفرانه لا يقتصر على شهر، بل يتسع لكل الأوقات، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
هنيئًا لمن حافظ على صلاته كما حافظ على صيامه، واعتبر رمضان مدرسة لتهذيب نفسه ورفعة روحه، فأقبل على العبادة بخشوع، وجعل من الصلاة طريقًا إلى طمأنينة القلب ونقاء الفكر، فكان بحق أهلًا لقوله -تعالى-: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
هنيئًا لمن بقي قلبه عامرًا بنفحات مواسم الطاعات، ولم يكن رمضان مجرد عابر سبيل في حياته؛ هو ذاك الذي ظل ملتزمًا بورده اليومي، ولم يطوِ صفحات القرآن بعد انقضاء الشهر الفضيل، بل جعله زادًا دائمًا لقلبه وعقله. وجعله رفيقًا في حياته، يفتح آياته ويغرف من معانيها، فالقرآن هو النور الذي يهدي قلبه، ويهذب روحه، وهو الشفيع الذي لا يخيب صاحبه يوم القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ) (رواه مسلم). وقد قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "لو طهرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله"، فمن عاش مع القرآن في رمضان، ينبغي أن يستمر معه بعده؛ لأنه نور القلب وهدى الحياة.
هنيئًا لمن جعل الذكر لسانه الدائم، وقلبه لا يفتر عن ترديده؛ فهو السبيل إلى القرب من الله، ومفتاح لطمأنينة الروح وسكينة القلب، قال -تعالى-: (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28). وما أجمل أن يكون القلب عامرًا بذكر الله، يملأ أيامه بالكلمات الطيبات، حتى يكون في معية الله وحفظه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
هنيئًا لمن أبقى على وصاله مع الله، فلا تغيب عنه العبادة ولا تفتر همته؛ فيظل قائمًا في الليل، ذاكرًا في الفجر، صائمًا بعد رمضان كما كان في أيامه المباركة. وهو يدرك تمامًا أن الصيام جُنَّة، وأن أبواب الرحمة تبقى مفتوحة بعد رمضان كما كانت فيه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) (رواه مسلم).
وكان السلف يقولون: "علامة قبول الحسنة، الحسنة بعدها"، فمَن أُعين على الصيام بعد رمضان، فهو من دلائل القبول -بإذن الله-.
هنيئًا لمن انتصر على شهواته في رمضان.
هنيئًا لمن أدرك أن تركه للشهوات في نهار رمضان لم يكن إلا دليلًا على قدرته على مجاهدة نفسه بعدها، فاستمر في ضبط رغباته، وجعل طاعته لله أقوى من أي شهوة زائلة؛ فربُّ رمضان هو ربُّ باقي الشهور، ومن استطاع أن يصبر طاعةً لله في شهر، فهو قادر على أن يصبر في كل وقت، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
هنيئًا لمن جعل الطاعة عادة، والمعصية شبحًا لا يقترب منه أبدًا، فكان في أفعاله في الدنيا قدوة لكل من حوله، ولم تلوثه الدنيا بزخرفها.
هؤلاء هم الذين يقيمون حدود الله في حياتهم، ويروون أنفسهم بماء التقوى، فلا يقعون في الخطيئة وإن تزينت أمامهم الدنيا بملذاتها، وأدرك أن المعصية إنما هي لحظة نزوة قد تنقضي، ولكن تبعاتها قد تطول، فابتعد عنها بكل ما أوتي من قوة، وإن زل انتفض مسرعًا ليزيل آثارها وتبعاتها، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود: 114). وقد قال أحد السلف: "المعصية بعد الطاعة كالسُّم بعد الترياق!".
هنيئًا لمن جعل رمضان دافعًا لاختيار الصحبة الطيبة التي تعينه على الثبات في الطاعة، وتبعده عن مسالك الضلال؛ فهؤلاء الذين يعلمون أن العبد لا ينجح إلا بوجود من يعينه على طريق الخير، فاستمروا في التواصل مع صحبة يشاركونهم السعي نحو رضا الله، ويشجِّعونهم على العمل الصالح بعد رمضان، كما قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28)، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) (متفق عليه).
فيا مَن ذقت حلاوة القرب، لا تجعلها ذكرى!
ويا من أَنِسْتَ بروح العبادة، لا تفارقها؛ فالمحب لا يعرف موسمًا للحب، والعابد لا يحدد لعبادته أجلًا، كما قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162). وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، وهي جنة الإيمان والطاعة.
اللهم ثبِّت قلوبنا على طاعتك، وارزقنا لذة عبادتك على الدوام، واجعلنا من أهل القرآن والصيام في كل حين.