الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 17 أبريل 2025 - 19 شوال 1446هـ

الوصايا النبوية (18) (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، قال: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حُزْنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92)، فَسَلَّمْنَا، وقُلْنَا: ‌أَتَيْنَاكَ ‌زَائِرِينَ ‌وَعَائِدِينَ ‌وَمُقْتَبِسِينَ، فَقَالَ الْعِرْبَاضُ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

مجمل الوصية:

(أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ): وذلك بفعل الواجبات وترك المُحَرَّمَاتِ. (وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ): أي: للأمراء. (وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا): أي: وإن كان هذا الأمير أو الوالي عَبْدًا حَبَشِيًّا. (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي): أي: بعد موتي. (فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا): في الدِّين، وغيره. ثم أرشدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أنفع علاج عند وقوع الاختلاف الكثير، فقال: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي): أي: طريقتي ونهجي. (وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ) أي: الذين هداهم الله وأرشدهم إلى الحق، والمقصود بهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر الصِّدِّيقُ، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين-. (تَمَسَّكُوا بِهَا): أي: بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخلفاء، وأفرد لفظ: (بِهَا) مع أنها تعود على اثنتين؛ لأنهما كشيء واحد. (وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ): أي: آخر الأضراس؛ يعني بذلك الجد في لُزُومِ السُّنَّةِ والتَّمَسُّكِ بها. (وَإِيَّاكُمْ): أي: احذروا واجتنبوا. (وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ): أي: الأمور التي تُحْدَثُ بعد ذلك وتخالف أصل الدين. (فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ): في دين الله وشَرْعِهِ. (بِدْعَةٌ): أي: طريقة مُخْتَرَعَةٌ في الدين. (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ): أي: مُوجِبَةٌ لِلضَّلَالَةِ والغَوَايَةِ، ويَضِلُّ بها صاحبها.

الوصية الأولى: بتقوى الله -تعالى-:

ـ تقوى الله: هي أن يَجْعَلَ الإنسان بينه وبين غضب الله وقايةً تَقِيهِ منه، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار.

ـ ولذا فهي وصية الله للأولين والآخرين: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) (النساء: 131). وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرع لها سَمْعَكَ؛ فإنها إما خير تؤمر به، وإما شر تُنْهَى عنه".

ـ وتقوى الله -عز وجل- هي سبب كل خير وصَلَاحٍ وفَلَاحٍ في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق: 4)، وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) (الطلاق: 5)، وقال: (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال: 29)، وقال: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) (البقرة: 282).

الوصية الثانية: بالسمع والطاعة لولاة الأمر:

ـ السمع والطاعة لولاة الأمور يكون في غير معصية الله ورسوله: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ) (رواه البخاري). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ) (أخرجه أحمد بسند صحيح).

ـ طاعة ولاة الأمور تُحَافِظُ على بقاء جماعة المسلمين وكيانهم وأمنهم: قال -تعالى-: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46). وقال عمر -رضي الله عنه-: (مَنْ ‌أَرَادَ ‌بُحْبُوحَةَ ‌الجَنَّةِ ‌فَلْيَلْزَمُ ‌الجَمَاعَةَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(1).

ـ تنبيه: العبد منافعه مملوكة لسيده، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون خليفة. وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة؛ أرجحها: أن هذا للمبالغة في السمع والطاعة.

الوصية الثالثة: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ):

ـ المراد بسنته هنا، ما جاء في الكتاب والسنة، فكل ذلك سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) (الحشر: 7). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (رواه البخاري).

ـ ثم اتباع سنة الخلفاء الراشدين الأربعة -رضي الله عنهم-: عن سعيد بن جُمْهَانَ عن سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ المُلْكَ- أَوْ مُلْكَهُ- مَنْ يَشَاءُ) قَالَ سَعِيدٌ: قَالَ لِي سَفِينَةُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ: أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَعُمَرُ عَشْرًا، وَعُثْمَانُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعَلِيٌّ كَذَا، قَالَ سَعِيدٌ: قُلْتُ لِسَفِينَةَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ بِخَلِيفَةٍ، قَالَ: كَذَبَتْ أَسْتَاهُ بَنِي الزَّرْقَاءِ -يَعْنِي: بَنِي مَرْوَانَ-" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ـ هذا هو طريق العِصْمَةِ من الاختلاف والضلال الذي يجب على الأمة ألا تَحِيدَ عنه قيد أنملة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ).

الوصية الرابعة: التحذير من البدع:

ـ لما رَغَّبَ -صلى الله عليه وسلم- في اتباع السنن وحثَّ عليها، رَهَّبَ بعد ذلك من خِلَافِهَا، ومما يُخَالِفُهَا من البدع المُحْدَثَةِ، فقال: (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). وقال مالك -رحمة الله-: "من أَحْدَثَ من هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سَلَفُهَا، فقد زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خان الرسالة"؛ لأن الله -تعالى- يقول: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3). ثم قال: "ما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا".

وروى الإمام الدارمي -رحمه الله- بسنده، عن عمرو بن يحيى، قال: سمعت أبي، يُحَدِّثُ، عن أبيه قال: "كنا نَجْلِسُ على باب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قبل صلاة الغداة، فإذا خرج، مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال: أخرجَ إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا بعد، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج، قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته ولم أرَ -والحمد لله- إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حَلَقًا جُلُوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حَصًى، فيقول: كَبِّرُوا مائةً، فيُكَبِّرُونَ مائةً، فيقول: هَلِّلُوا مائةً، فيُهَلِّلُونَ مائةً، ويقول: سَبِّحُوا مائةً، فيُسَبِّحُونَ مائةً، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: "أفلا أمرتهم أن يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وضمنت لهم ألا يَضِيعَ من حَسَنَاتِهِمْ شيء".

ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقةً من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: "ما هذا الذي أراكم تَصْنَعُونَ؟" قالوا: يا أبا عبد الرحمن حَصًى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: "فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فأنا ضامن أن لا يَضِيعَ من حَسَنَاتِكُمْ شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هَلَكَتَكُمْ هؤلاء صحابة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- مُتَوَافِرُونَ، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تُكْسَرْ، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى مِلَّةٍ هي أهدى من مِلَّةِ محمد -صلى الله عليه وسلم- أو مُفْتَتِحُو باب ضلالة"، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: "وكم من مُرِيدٍ للخير لن يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ، وَايْمُ اللهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ" ثم تَوَلَّى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يُطَاعِنُونَا يوم النهروان مع الخوارج. <ينظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (‌‌2005)>.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أين هي هذه الأمة اليوم؟ تفرَّقوا إلى سبع وخمسين دولة إسلامية، منها: اثنتان وعشرون دولة عربية؛ ولذا استضعفتهم أمم الأرض الأخرى.