كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُواصل العُقابُ حكايتَه مع التَّذوق بكلماتٍ تُبيِّن مدى أهمية الجُرجاني في صناعةِ خيال العُقاب، وبناءِ فكره في منهج "التَّذوق".
قال -رحمه الله-: "وبدا لي يومئذٍ أن أُعِيدَ قراءةَ عبد القاهر الجُرجاني في كتابَيه: "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز"، أكببتُ على قراءةِ الكتابَين، وبَغتةً رأيتُ أو تبيَّنتُ أنّ عبد القاهر قد وقع في نَفْسِ ما وقعتُ فيه، رأيتُه قد وقع في الحَيْرَةِ من لفظ "البلاغة"، ورآه لفظًا مُبهَمًا شكلًا ليس له بيانٌ، ولا حَدٌّ يُعِينُ على تصور "البلاغة" ما هي؟
فيومئذٍ انبعث انبعاثًا لِيكشفَ عن إبهام "البلاغة"، فألَّف كتابَه "أسرار البلاغة"، عَمَدَ فيه إلى تحليل الألفاظ المُتصرِّفة بأمر المعاني، مُبينًا عن وجوه حُسنها وقُبحها، وخطئها وصوابها، وسُموِّها وسُقوطها غير مقطوعةٍ عن أصلها في الكلام المُؤلَّف المُركَّب، ثُمَّ ألَّف أيضًا كتابَه "دلائل الإعجاز"، عمد فيه إلى تحليل الجُمل، أي الكلام المُركَّب الذي يحتمل تركيبُه آلافًا من الوجوه، فكان كِتَاباهُ هذَانِ أوَّلُ كتابَينِ في "تحليل اللُّغة" بلغ فيهما غاية قصر عنها كُلُّ مَن جاء بعده، وهذان الكتابان هما أصلُ "علم البلاغة"، كما سمَّيْناه؛ وسترى ذلك مُبينًا في كتابي: "مداخل إعجاز القرآن" (تنبيه: نُشر هذا الكتابُ بعد وفاةِ العُقابِ -رحمه الله-، مطبعة المدني، القاهرة، سنة 2002 م).
كان فضلُ عبد القاهر يومئذٍ عليَّ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّني حين فهمتُ حقيقةَ الدَّواعي التي حملتْه على وضع كتابَيه الجليلَين، أدركتُ مِن فوري أنّ مسألةَ "التَّذَوُّقِ" مُرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بمسألةِ "البلاغةِ" في الأمرَينِ جميعًا، في إبهامِهما، وفي أنّهما حقيقتانِ مُتعلِّقتانِ بمَداركِ الفِطْرةِ في الإنسان.
ولمّا رأيتُه قد استطاع بتحليلِ الألفاظِ والجُملِ والتَّراكيبِ أن يجعلَها تكشفُ اللِّثامَ عن أسرار المعاني القائمة في ضمير مُنشِئِها، فأزال إبهام "البلاغة"، ظننتُ أنّه مِن المُستطاعِ أيضًا بضُروبٍ أخرى مِن تحليلِ الألفاظِ والجُملِ والتَّراكيبِ أن أصلَ إلى شيءٍ يَهديني إلى كشفِ اللِّثامِ عن أسرار العواطف الكامنة التي كانت في ضمير مُنشِئِها، فأزيل إبهام "التَّذوق".
وإذا كان تحليلُه قد أفضى به أن يجعلَ نظم "الكلام" دالًّا على صُوَرٍ قائمةٍ في نفس صاحبها، فعسى أن أجدَ أيضًا في ضَربٍ أو ضُروبٍ مِن التَّحليل ما يُفضي بي إلى أن أجعلَ "الكلام" ونظمه جميعًا دالًّا على صُورةِ صاحبِها نَفْسِه.
والتبست عليَّ الطُّرقُ مرَّةً، واستبانت مرَّةً، ثُمَّ بدأتْ بعد زمنٍ تتضح لي بعضُ المَعالِم، وكان ممّا أعانني على وضوح هذه المعالم، ما كنتُ دخلتُ فيه مِن قَبْلُ، مِن جَسِّ الكلماتِ والألفاظِ والتَّراكيبِ جَسًّا مُتَتابِعًا، إلى آخِر ما وصفتُه آنفًا.
وعلى الأيّامِ بزغ لي بعضُ الضِّياءِ، وأنارت بعضُ الشُّعَلِ، ووضعتُ لِنفسي منهجًا، انتهيتُ إلى أن سمَّيتُه "التَّذوق"، كما حدَّثْتُك آنفًا، وجعلتُ أُمَارِسُه في جميع ما أقرأُ مِن الكلامِ لا في الشِّعرِ وَحْدَه؛ والأمرُ يَطُولُ، ولكن هذه خُلاصتُه أكتبُها على مَشَقَّةٍ" (انتهى).
وإلى اللقاء في المقال القادم -إن شاء الله-.
فاللهمَّ يسِّر وأعِن.