الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 26 ديسمبر 2024 - 25 جمادى الثانية 1446هـ

ابن عثيمين ألجم حدادية أهل السنة.. ونحن ننتظر المعاملة بالمِثْل

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمن المعلوم أن الخلاف قد يكون: خلاف تنوعٍ، وقد يكون خلاف تضادٍّ.

وخلاف التنوع هو: ما لا يكون إثبات صحة أحد القولين مستلزمًا لخطأ القول الآخر، وبالتالي فلا إشكال مِن جهة الاختلاف؛ فما صَحَّ دليله منهما كان صحيحًا سواء أكان قولًا واحدًا، أو أكثر من قول. ومثاله: اختلاف صيغ التشهد، واختلاف صيغ الأذان.

ومثاله عند الأشاعرة: القول بتأويل الصفات أو القول بتفويض معناها إلى الله، ولكن هذين القولين عند أهل السنة كلاهما مخالف لمذهب السلف القائم على الجمع بين الإثبات والتنزيه، وهو -قولي الأشاعرة في هذه المسألة- عند السلف من خلاف التضاد غير السائغ.

وخلاف التضاد هو: الذي يكون فيه القول بصحة أحد القولين مستلزما خطأ القول الآخر، وقد يكون سائغًا إذا كانت الأدلة في المسألة غير قطعية، ولا ظاهرة الدلالة. وأما إذا وُجِدت الأدلة القطعية أو الظاهرة الدلالة بغير ما دليل صارف؛ لا سيما إذا استقر عليها عمل السلف، أو وجد في المسألة إجماع منضبط، أو قياس جلي؛ فالقول بخلاف مقتضى أي من هذه الأدلة يعتبر خلاف تضاد غير سائغ.

ويطالِب البعضُ الآخرين بدرجة يستحيل وجودها عقلًا، وهي: أن تدافع عما تراه خطأ أكثر مما تدافع عن رأيك، وإلا كنتَ من وجهة نظره تحتكر الصواب لنفسك!

ولو أن كلَّ مَن اجتهد واختار قولًا قال: إنه يرى أن الحق في هذه المسألة كذا... واستدل على ما أداه إليه اجتهاده، وبيَّن لماذا لم يقتنع بالأقوال الأخرى، فيبيِّن ما يراه خطأ في استدلال أصحابها عليها؛ فإن قلت له: إنك تخالفه في قضيته تلك؛ رماك بكل نقيصة، ونسبك للتطرف والغلو والجهل! فإنه يخسر قضيته في أول اختبار، فهو هاهنا يتبنَّى هذا الرأي، ويرى أنه لا حق لأحدٍ أن يناقشه في ذلك الرأي! وإذا مررت على منهجه قضية قضية، وجدته في كل واحدة ينبري للدفاع عن وجهة نظره، وهذا هو السلوك الطبيعي لكل البشر.

 وأما ما ينبغي أن يطلق عليه: "احتكار الحق"؛ فهو فعل الأحبار والرهبان الذي يدَّعون حلول روح القدس فيهم، ومِن ثَمَّ يعاملون على أنهم معصومون، أو مَن شابههم في ذلك: كالشيعة في قولهم بعصمة الأئمة.

أو ما شابهت فيه الصوفية الفرقتين حين أصَّلوا لمبدأ عدم مناقشة الشيخ في فعل مهما بدا مصادمًا للنصوص؛ فثمة تفسيرٍ ما لا يهمك أن تعلمه يوفِّق بين فعل الشيخ وبين الشريعة؛ فلو أنك تراه تاركًا للصلاة فلعله يكون يذهب يصلي في مكة وأنت لا تدري! أو يُحمَل إلى جزيرة من جزر البحر يصلي بالأولياء!

وإذا كان يرتكب الفاحشة في عرض الطريق فهي قدرة تخييل أعطاها فوظفها (تواضعًا) في فعل يطرد عن الناس ادِّعاء صلاحه طلبًا للإخلاص!

 وأما دفاع كل شخص عما يراه حقًّا مستدلًا عليه بالحجة والبرهان مقرًّا بأنه متى تبيَّن له خطأ قول من أقواله رجع عنه؛ فهذه هي طريقة السلف وهي التي توافق تصرف جميع العقلاء.

 ومن هنا ناقش علماء كل فرقة موقفهم من نقل العلوم عن الآخرين فيما أصابوا فيه؛  فأما السلفيون فهم الذين ساروا على مثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وبالتالي فهم حتى في الفترات التي تبنت الدولة فيها مذهبًا مغايرًا لهم -بل واضطهدتهم كما فعل المأمون عندما انتصر للاعتزال، وكما فعل الأيوبيون والمماليك حينما انتصروا للمذهب الأشعري- كانوا دائمًا ما يشعرون أنهم -بالفعل- مسئولون عن الأمة ككلٍّ حتى مبتدعيها -كالخوارج عنها- ما بقوا من الأمة، ومِن ثَمَّ قال علي -رضي الله عنه- عن الخوارج -مع أنهم يقاتلون الصحابة-: "لهم علينا ثلاث: أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها، وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا، وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا".

 وقال المحدثون بقبول رواية المبتدع (لاحظ لم ينفوا عنه البدعة)، ولكن قالوا: لو كانت بدعته لا تدعو إلى الكذب، وكان هو نفسه عدلًا ضابطًا، وكان الحديث ليس مما يروج لبدعته يقبل حديثه.

ثم قالوا: إنهم يحمون بيضة الإسلام خلف الحاكم -ولو كان فاجرًا- طالما أنه في الجملة يحمي بيضة المسلمين.

ثم لما برع بعض المبتدعة في بعض العلوم اعترفوا لهم بهذا، وقالوا: "نقبل الحق ممن جاء به"؛ فرفعوا شأن الباقلاني لمَّا دافع عن إعجاز القرآن، وقَبِلوا لطائف الزمخشري اللغوية؛ وإن كان قد ضمَّن الاعتزال تحت كلِّ حرف من كشافه -كما قيل-.

 وأما الطوائف الأخرى: فالشيعة منعوا من التعلم على يد أهل السنة حتى نسبوا إلى أئمتهم أن مَن لم يجد إلا مفتيًا سنيًّا، فإنه يستفتيه ويعمل بخلاف فتواه!

 وأما الخوارج: فلن يتعلموا ممَّن يكفرونهم.

وكان الغالب على الأشاعرة المتقدمين موقفًا مشابهًا للسلفيين؛ كما بيَّن ذلك الغزالي في فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة، والذي نصح فيه أن يوجه العوام إلى تعلم عقيدة السلف، وقال: وأقرب الأئمة إليها الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-.

 حتى جاء جيل ابن مخلوف -وغيره- ممن حرَّضوا مرة بعد أخرى على قتل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ثم لما أظهره الله على مخالفيه وأراد السلطان أن يستصدر منه فتوى بقتلهم؛ أبى ذلك، ودافع عنهم -رحمه الله تعالى-.

ثم كانت العالمانية وعجزت المناهج الكلامية عن مواجهتها، وكيف تواجهها وهي تقر لها بالأساس الذي تهدم الدِّين من خلاله؛ وهو: زعم التعارض بين النقل والعقل، وادِّعاء: أن حل هذا التعارض يكمن في التأويل!

وهنا فرض الظرف التاريخي انتشار المنهج السلفي.

والعجيب: أن المنهج السلفي انتشر فراجت طبعات "فتح الباري" للحافظ ابن حجر -رحمه الله-، وهم يصنِّفونه أشعريًّا.

وملأ الدنيا "رياض الصالحين" للنووي، وهم يعدونه أشعريًّا.

ودُرِّس "الإبداع في مضار الابتداع" للشيخ علي محفوظ، وهو معدود من الأشاعرة.

واعتمد "فقه السنة" ككتاب يناسب غير المتخصصين، ومؤلفه أزهري أشعري.

 ثم كانت الآونة الأخيرة، وحصل فيها انتفاضة أشعرية؛ لا ترى خصمًا أمامها إلا السلفية، مع أن الخصوم المشتركين كُثْرٌ، ومعارك الشريعة مع خصومها قائمة رحاها، وصاروا يستهدفون رمزًا بعد آخر؛ ابن تيمية تارة رغم أن العلامة الأزهري الكبير "محمد أبو زهرة" لما أراد أن يخص بعض الأئمة بالكتابة عنهم بعد الأئمة الأربعة، كان "ابن تيمية، والأشعري، وابن حزم" هم مَن اختارهم لهذا.

ثم كانت السخرية من الألباني رغم أن عَلَمًا أزهريًّا كبيرًا؛ كالشيخ معبد عبد الكريم قال: "ما تعلمنا علم التخريج في الأزهر إلا من كتب الألباني".

 ثم كان ابن عثيمين؛ بدعوى أنه يكفر الأشاعرة!

 وذكرني هذا ببدعة ظهرت بين أناسٍ كانوا في الأصل سلفيين، ثم تركوا تعلم العلم على الضابطين للمنهج السلفي فغلوا في مفهوم البدعة والتعامل مع مَن يتلبس بها؛ حتى دعوا إلى إحراق "فتح الباري"، و"شرح صحيح مسلم"، - وقد عرف هؤلاء الغلاة في حد البدعة وعدم عذر المتأولين في البدع -وإن كانوا من كبار العلماء- بالحدادية، وهم منشقون عن فصيل آخر أكثر شهرة وهم "المداخلة". وسوف نتناول فكر المداخلة في مقالة قادمة بإذن الله -.

وكان من أول مَن تصدى لهم الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-، فقال الشيخ ابن عثيمين في لقاءات الباب المفتوح: "هناك أناس ينتسبون لطائفة معينة شعارها البدعة، كالمعتزلة -مثلًا-، ومنهم: الزمخشري، فالزمخشري معتزلي، ويصف المثبتين للصفات بأنهم: حشوية مجسمة ويضللهم، فهو معتزلي، ولهذا يجب على مَن طالع كتابه "الكشاف" في تفسير القرآن أن يحترز من كلامه في باب الصفات، لكنه من حيث البلاغة، والدلالات البلاغية اللغوية جيد، ينتفع بكتابه كثيرًا؛ إلا أنه خطر على الإنسان الذي لا يعرف في باب الأسماء والصفات شيئًا، لكن هناك علماء مشهود لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة من أهل البدع، لكن في كلامهم شيء من كلام أهل البدع؛ مثل: ابن حجر العسقلاني، والنووي -رحمهما الله-، فإن بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًّا مطلقًا من كلِّ وجه!

حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول: يجب أن يحرق "فتح الباري"؛ لأن ابن حجر أشعري، وهذا غير صحيح، فهذان الرجلان بالذات ما أعلم اليوم أن أحدًا قَدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدَّماه، ويدلك على أن الله -سبحانه وتعالى- بحوله وقوته -ولا أتألَّى على الله- قد قبلها: ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس؛ لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب "رياض الصالحين" يقرأ في كل مجلس، ويقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعًا عظيمًا، وأتمنى أن يجعل الله لي كتابًا مثل هذا الكتاب، كلٌّ ينتفع به في بيته، وفي مسجده؛ فكيف يقال عن هذين: إنهما مبتدعان ضالان، لا يجوز الترحم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما، ويجب إحراق "فتح الباري"، و"شرح صحيح مسلم"؟! سبحان الله! فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال، وبلسان المقال:

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم             أو ســدوا الـمـكـان الـذي ســـدوا

مَن كان يستطيع أن يقدِّم للإسلام والمسلمين مثلما قدَّم هذان الرجلان -إلا أن يشاء الله-؟!

فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممَّن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين، وأمِّنوا على ذلك" (انتهى من لقاء الباب المفتوح).

وأخيرًا أقول:

هذا ابن عثيمين -رحمه الله- قد فَعَل ما عليه، وألجم "الحدادية" الذين انطلقوا من تصورات ظنوها صحيحة صائبة، وليست كذلك.

وها نحن نرى أن لكلِّ فرقة حداديها.

ولنا أن نتساءل: هل يمكن أن يخرج من كلِّ فرقة عقلاء يتصدون لحداديها؟!