كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كانت مدينة غزة تلعب دورًا كبيرًا على مرِّ الحقب الزمنية المختلفة، فيما يخص حركة التجارة؛ ولذا كان الروم يقيمون بها سوقًا تجاريًّا، وكان العرب يترددون عليها للتجارة، فقد نزلها للتجارة أُمَيَّة بن أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِي، وتوفي بها هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن هنا عُرِفت بغزة هاشم، ونزلها كذلك عبد الله والد النبي -عليه الصلاة والسلام-، ونزلها كذلك أبو سفيان بن حرب -رضي الله عنه-.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قال: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ قَالَ: "كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا وَكَانَتِ الْحَرْبُ قَدْ حَصَرَتْنَا حَتَّى نَهَكَتْ أَمْوَالَنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ -هُدْنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ عام 6 هـ- بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَا نَأْمَنْ أَنْ وَجَدْنَا أَمْنًا، فَخَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِمَكَّةَ امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَةً، وَكَانَ وَجْهُ مَتْجَرِنَا مِنَ الشَّامِ غَزَّةَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ" (البداية والنهاية لابن كثير)، وهكذا كان كثير من العرب يذهبون إلى غزة في رحلات تجارية.
بل لقد اغتنى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أعمال التجارة بمدينة غزة، حيث قال أبو القاسم ابن حَوقل البغدادي الموصلي في كتابه: (صورة الأرض): "ومنها -أي: غزة- أَيْسَرَ عمرُ بن الخطّاب في الجاهليّة؛ لأنها كانت مُستطْرقًا لأهل الحجاز، وكان عمرُ بها مُبَرْطِسًا"، والمبرطس هو الذي يَكْتَرِي للنَّاسِ الإِبِلَ والحَمِيرَ، ويأخُذُ عليه جُعْلاً.
فبرطسة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كانت ترتكز في غزة، فقد كان لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أعمال تجارية واسعة في غزة، وتحديدًا في مجال الشحن والنقل، حيث إن يساره وثراءَه حدَث له هناك.
وكما كانت دمشق هي أول محطة سورية على حافة الصحراء، في طريق الذاهب إلى بلاد آشور -على ضفتي نهر دجلة-، كانت غزة أول مدينة على حافة الصحراء في الطريق الذاهب إلى مصر، وكان الحجاج يجتمعون في غزة أثناء سفرهم إلى سيناء.
وكانت قوافل التجارة تجتمع في مدينة غزة، وتتحرك منها إلى مصر وجنوب بلاد العرب، وكانت البضائع تأتي إلى غزة من ميناء العقبة، بل وكانت غزة بحكم موقعها الساحلي هي مجمع تجارة بلاد العرب والهند إلى بلاد الروم؛ فلك أن تتخيل تلك الحركة التجارية الكبيرة عن طريق مدينة غزة!
وكانت التجارة أيضًا تبدأ من جنوب بلاد العرب في اليمن، التي يجتمع فيها تجارة البلاد وتجارة الهند، ثم تسير شمالًا إلى مكة ويثرب "المدينة المنورة حاليًا"، والبتراء "وهي مدينة تقع جنوب الأردن"، قبل أن تتفرع إلى فرعين؛ أحدِهما: في غزة على البحر المتوسط، وثانيهما: في طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتَدْمُر.
ولقد أشارت بعض المصادر التاريخية: إلى أن العرب المعينيين -مملكة معين- وهم الذين سبقوا الدولة السبئية، هم أول مَن ارتاد غزة وغشي أسواقها من العرب، وكانوا يحملون إليها بضائعهم من مختلف السلع، كالبخور والبهارات والطيب واللبان، فينقلونها عبر الصحراء إلى غزة؛ لأنها كانت أهم نقطة تجارية واقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
ثم كانت غزة من أهم المحطات التجارية التي لعبت دورًا كبيرًا في عصر مملكة سبأ، حيث كان السبائيون يؤمونها بقوافلهم التجارية، وهكذا كانت غزة تمثِّل مركزًا تجاريًّا مهمًّا بأرض الشام المباركة، وذلك خلال العصور المختلفة.
وهكذا كانت غزة هي حلقة الوصل بين الدول والأمم في حركة التجارة العالمية، ويُروى في الأثر: "طوبَى لِمَن أسكنَهُ اللَّهُ تعالى إحدى العَروسَينِ: عَسقلانَ أو غزَّةَ" (أخرجه الديلمي عن عبد الله بن الزبير مرفوعًا، وضعفه الألباني -رحمه الله-).
والعروسين تثنية عروس، وهو وصف يشترك فيه الذكر والأنثى -عسقلان أو غزة-، وفي الأثر تنويه بفضل البلدين وترغيب في السكنى بهما.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.