كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- من مكارم الأخلاق المنشودة "التراحم": قال النبي- -صلى الله عليه وسلم- -: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- المقصود بالتراحم: إشاعة الرحمة بين الناس في جميع مجالات التعامل. وتراحم النَّاسُ: تعاطفوا، وتعاملوا برقَّة وعَطْف ولين.
- حاجتنا إلى التراحم في هذا الزمان الذي شاعت فيه القسوة والغلظة والعنف، وصارت أخبار القسوة والعنف تطالعنا في كل لحظة تقريبًا، بل نجد من الأفلام والإنتاج الإعلامي ما يصور العنف والقسوة على أنه بطولة، حتى صار كثير من الشباب يقلدون هؤلاء، ظنًّا أن ذلك من مظاهر الرجولة.
(1) مكانة التراحم في الإسلام:
- ورد ذكر الرحمة ومشتقاتها في القرآن الكريم في نحو (268) موضعًا، وهذا يدل على أهميتها وعناية الإسلام بها كخلق من الأخلاق التي يدعو لها ويحث عليها.
- التراحم هو أعظم صفات مجتمع المسلمين: قال -تعالى-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح:29).
- التراحم من أعظم صفات نبي العالمين -صلى الله عليه وسلم-: قال -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ) (رواه الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيحٍ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ) (رواه البخاري)، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان محمد -صلى الله عليه وسلم- رحمة لجميع الناس، فمَن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق" (تفسير القرطبي).
- التراحم من أعظم صفات المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَلُ الْجَسَدِ الواحد؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).
- التراحم علامة على لين القلوب: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: تقبِّلون الصِّبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) (متفق عليه).
(2) أثر التراحم في الدنيا والآخرة:
- التراحم من أسباب المحبة والاجتماع بين أفراد المجتمع: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَلُ الْجَسَدِ الواحد؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).
- التراحم من أسباب نيل رحمة الرحيم -سبحانه-: قال النبي- -صلى الله عليه وسلم- -: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال: (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) (رواه البخاري).
- التراحم من أسباب مغفرة الذنوب والكبائر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنا رَجُلٌ يَمْشِي، فاشْتَدَّ عليه العَطَشُ، فَنَزَلَ بئْرًا، فَشَرِبَ مِنْها، ثُمَّ خَرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فقالَ: لقَدْ بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أمْسَكَهُ بفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ له، فَغَفَرَ له، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وإنَّ لنا في البَهائِمِ أجْرًا؟ قالَ: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ) (رواه البخاري). وفى الرواية الأخرى: (غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، مَرَّتْ بكَلْبٍ علَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، قالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فأوْثَقَتْهُ بخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ له مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بذلكَ) (متفق عليه). (أهمية الإشارة لطريقة الرجل في جلب الماء، وكذلك المرأة، التي يستنكف كثير مِن الناس من فعلها مع بني جنسهم).
(3) نماذج من التراحم:
- رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمساكين والفقراء: عن جرير بن عبد الله قال: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1)، وَالآيَةَ الَّتي في الحَشْرِ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (الحشر:18)، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ بُرِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ. (رواه مسلم).
- رحمة الفاروق عمر -رضي الله عنه- براهب نصراني: (مرَّ عمر -رضي الله عنه- براهب، فوقف ونودي بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترْكِ الدنيا، فلمَّا رآه عمر بكى، فقيل له: إنَّه نصراني، فقال عمر: قد علمت، ولكني رحمته، وذكرت قول الله -عزَّ وجلَّ-: (هل أتاك حديث الغاشية . وجوه يومئذ خاشعة . عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ . تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) (الغاشية: 1-4)، فرحمتُ نصبَه واجتهاده، وهو في النَّار) (رواه عبد الرزاق).
- رحمة السلف -رحمهم الله- بالحيوان: كتب عمر بن عبد العزيز إلى حيَّان -عامله- بمصر: "إنَّه بلغني أنَّ بمصر إبلًا نقالات، يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفنَّ أنَّه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل"، وكتب إلى صاحب السكك: "أن لا يحملوا أحدًا بلجام ثقيل من هذه الرستنية، ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة" (رواه الإمام مالك). وعن معاوية بن قرة قال: "كان لأبي الدرداء جمل يقال له: دمون، فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون! لا تخاصمني غدًا عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق".
(4) التحذير من القسوة والغلظة:
- صور من القسوة والغلظة: (عدم الاكتراث بما يصيب الآخرين من أذى ومصائب - جمود العين عن البكاء - عدم الاتعاظ بالموت والضحك عند القبور أو الكلام في أمور الدنيا عند الدفن - عدم التأثر بالقرآن أو سيرة النبي وربما يتأثرون بالأفلام والأغاني - صور مباشرة العنف التي لا تحصى - مشاجرات، تعذيب الناس - ...).
- القسوة والغلظة من أسباب نفرة الناس عن صاحبها: قال -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
- القسوة والغلظة عقوبة على الغفلة وترك أوامر الله: قال -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: 13).
- القسوة والغلظة من أسباب العذاب والإبعاد عن رحمة الله -سبحانه-: قال -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الزمر:22)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ لَا يَرحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ) (متفق عليه). وقال: (لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) (متفق عليه).
(5) أمور تعين على زيادة الرحمة في القلوب:
1- طلب العلم الشرعي؛ لأنه يزيد الخشية، والرحمة من ثمرات الخشية: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر: 28).
2- اجتناب مواطن القسوة والغفلة والعنف (أماكن - أشخاص - وظيفة): قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) (الكهف: 28). وقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ: رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) (متفق عليه). قال الخطابي: "إنَّما ذمهم لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمر دينهم، وذلك يفضي إلى قسوة القلب" . الفدادون: أصحاب الإبل في البوادي.
3- حضور مجالس الذكر، وارتياد المساجد: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (رواه مسلم).
4- اغتنام مواسم وأوقات زيادة الرحمة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
5- الدعاء وسؤال الله خلق الرحمة: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8)، (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10).
فاللهم هب لنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا مِن أمرنا رشدًا.