الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 16 أكتوبر 2024 - 13 ربيع الثاني 1446هـ

مكارم الأخلاق (4) العفة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

- من مكارم الأخلاق المنشودة "العفة": "وهي الكف عن المحارم والأطماع الدَّنية" (لسان العرب).

العفة على ذلك نوعان:

الأول: التعفف عما في أيدي الناس (عدم سؤال الناس - عدم التشوف أو التطلع إلى ما عند الناس - عدم أخذ أموال الناس بالباطل: كالرشوة، والغش، ونحوه).

الثاني: التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها (اجتناب الزنا - اجتناب النظر إلى المحرمات - اجتناب سماع المحرمات - اجتناب أماكن المحرمات). وسيأتي التفصيل حول النوعين.

مكانة العفة في الإسلام:

أولًا: التعفف عما في أيدي الناس:

- رغب الإسلام في العفة والتعفف عما في أيدي الناس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ ‌يُحِبُّكَ ‌النَّاسُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌واعْلَمْ ‌أنَّ ‌شَرَفَ ‌المُؤمِنِ ‌قِيامُهُ ‌باللَّيْلِ ‌وعِزُّهُ ‌اسْتَغناؤهُ ‌عنِ ‌النَّاسِ) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وحسنه الألباني).

- بل رغَّب الإسلام في العفة والتعفف عما في أيدي الناس وعدم سؤالهم، ولو مع شدة الحاجة، وأثنى على من اتصف بذلك: قال الله -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 273).

- وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن التعفف عما في أيدي الناس، عاقبته الغن والستر من الغنى الحميد -سبحانه-: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (‌مَا ‌يَكُونُ ‌عِنْدِي ‌مِنْ ‌خَيْرٍ ‌فَلَنْ ‌أَدَّخِرَهُ ‌عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) (متفق عليه).

نماذج في التعفف عما في أيدي الناس:

1- عفة صاحب جرة الذهب: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ، وَمَا فِيهَا، قَالَ: فَتَحَاكَمَا إلى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) (متفق عليه).

2- عفة حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: قال -رضي الله عنه-: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا حَكِيمُ، ‌إِنَّ ‌هَذَا ‌الْمَالَ ‌خَضِرَةٌ ‌حُلْوَةٌ، ‌فَمَنْ ‌أَخَذَهُ ‌بِسَخَاوَةِ ‌نَفْسٍ ‌بُورِكَ ‌لَهُ ‌فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى). قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- يَدْعُو حَكِيمًا إلى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. (متفق عليه).

ثانيًا: التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها:

- أوجب الإسلام التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها، ودعا إلى ذلك بالوسائل الكثيرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌سَبْعَةٌ ‌يُظِلُّهُمُ ‌اللهُ ‌فِي ‌ظِلِّهِ ‌يَوْمَ ‌لَا ‌ظِلَّ ‌إِلَّا ‌ظِلُّهُ... )، وفيه: (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ) (متفق عليه).

قال -صلى الله عليه وسلم-: (‌يَا ‌مَعْشَرَ ‌الشَّبَابِ، ‌مَنِ ‌اسْتَطَاعَ ‌مِنْكُمُ ‌الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور: 33). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌ثَلَاثَةٌ ‌حَقٌّ ‌عَلَى ‌اللَّهِ ‌عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

- وشرع الإسلام أحكامًا كثيرة لسدِّ باب الفتنة واجتناب الوقوع في الفاحشة، هي من باب الوقاية خير من العلاج: (فرض الحجاب - الأمر بغض البصر - تحريم الخلوة - تحريم الاختلاط - تحريم الدخول على النساء في غيبة الأزواج - تحريم سفر المرأة بغير محرم - تحريم تطيُب المرأة بين الأجانب): قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَيُّمَا ‌امْرَأَةٍ ‌اسْتَعْطَرَتْ ‌فَمَرَّتْ ‌عَلَى ‌قَوْمٍ ‌لِيَجِدُوا ‌مِنْ ‌رِيحِهَا، ‌فَهِيَ ‌زَانِيَةٌ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ‌ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجالِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُها، وخَيْرُ صُفُوفِ النِّساءِ آخِرُها، وشَرُّها أوَّلُها) (رواه مسلم).

نماذج في التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها:

1- عفة نبي الله يوسف -عليه السلام-: قال الله -تعالى-: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 22).

2- عفة صاحب الغار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إلى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ -تعالى- بِهَا؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ.... وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ...) (متفق عليه واللفظ لمسلم).

أمور تعين على العفة:

1- مراقبة الله في السر والعلن: قال الله -تعالى-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19).

2- التربية على تعاليم الإسلام من الصغر: وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في يد الحسن تمرة من الصدقة، فقال: (كِخْ كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا ‌لَا ‌نَأْكُلُ ‌الصَّدَقَةَ؟!) (متفق عليه).

3- البعد عن مواطن ودواعي الفاحشة: (وسائل الإعلام والاتصالات المفسدة - أماكن الفتن والعري والتهتك - كل ما يؤدي إلى الفاحشة - ...).

4- الالتزام بأحكام الإسلام وآدابه: (الحجاب - الاستئذان - غض البصر - عدم الاختلاط المحرم - سائر الآداب المتقدمة - إلخ).

5- الدعاء: كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌اللَّهُمَّ ‌إِنِّي ‌أَسْأَلُكَ ‌الْهُدَى ‌وَالتُّقَى، ‌وَالْعَفَافَ ‌وَالْغِنَى) (رواه مسلم).

فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.