كتبه/ طلعت مرزوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -عز وجل-: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء: 23)؛ فهو -عز وجل- يهدي مَن يشاء، ويعصم ويُعافي فضلًا، ويضل مَن يشاء، ويخذل ويبتلي عدلًا.
وفيه ردٌ على المعتزلة في التحسين والتقبيح العقلي، القائلين بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، فالظلم عند أهل السنة ليس مجرد التصرف في ملك الغير بغير إذنه، بل غياب العلم والحكمة في التصرف في المِلْك ظلم.
وقد فسَّر كثير مِن العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير مواضعها، والله -سبحانه- حرَّم الظلم على نفسه، وأفعاله كلها عن علمٍ وحكمة.
وعن ابن الديلمي، قال: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ، خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ دِينِي وَأَمْرِي، فَأَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ، فَخَشِيتُ عَلَى دِينِي وَأَمْرِي، فَحَدِّثْنِي مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ، فَقَالَ: "لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ"، وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَتَسْأَلَهُ.
فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ، فَسَأَلْتُهُ، فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيٌّ، وَقَالَ لِي: وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ. فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا، وَقَالَ: ائْتِ زيْدَ بْنَ ثابتٍ، فَاسْأَلْهُ.
فَأَتَيْتُ زيْدَ بْنَ ثابتٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لوْ أَنَّ اللَّهَ عذَّبَ أهْلَ سَمَاوَاتِهِ وأهْلَ أرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، أوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ، فَتَعْلَمَ أنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ) (رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الألباني).
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث نظر. ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم. قال: وقد يُحمل على أنه لو أراد تعذيبهم، لقدر لهم ما يعذبهم عليه، فيكون غير ظالمٍ لهم حينئذٍ".
وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلم، لا يقتضي وصفه بالظلم -سبحانه وتعالى-، كما أنه لا يُوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خلقه وتقديره، فإنه لا يُوصف إلا بأفعاله، لا يُوصف بأفعال عباده، فإن أفعال عباده مخلوقاته ومفعولاته، وهو لا يُوصف بشيء منها، إنما يُوصف بما قام به مِن صفاته وأفعاله. والله أعلم.
قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (ق: 14).
هذه الآية الكريمة تدل على أن من كذَّب الرسل يحق عليه العذاب؛ أي: يتحتم ويثبت في حقه ثبوتًا لا يصح معه تخلفه عنه، وهو دليل واضح على أن ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصح أن يُخلف وعيده؛ لأنه قال إنه لا يخلف وعده، ولم يقل إنه لا يخلف وعيده، وأن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد.
لا يصح بحال؛ لأن وعيده -تعالى- للكفار حق، ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل كما دَلَّ عليه قوله هنا: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله: سها فسجد؛ أي: لعلة سهوه. وسَرَق فقطعت يده؛ أي: لعلة سرقته، ومنه قوله -تعالى-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (المائدة: 38)، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق ووجب عليهم، فدعوى جواز تخلفه باطلة بلا شك. (ينظر: أضواء البيان).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد؛ فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب قد بيَّن -سبحانه- أنه بشروط: بأن لا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فإن الحسنات يذهبن السيئات. وبأن لا يشاء الله أن يغفر له، فـ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48).
فهكذا الوعد له تفسير وبيان، فمن قال بلسانه لا إله إلا الله وكذب الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئًا مما أنزل الله؛ فلا بد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول، ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدًا كان في النار، فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة.
ومن كان له حسنات وسيئات فإن الله لا يظلمه، بل مَن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره، والله قد يتفضل عليه ويحسن إليه بمغفرته ورحمته، ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار" (مجموع الفتاوى).