الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 29 أغسطس 2024 - 25 صفر 1446هـ

الرجولة (2)

كتبه/ محمد سرحان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالرجولة وصف اتفق العقلاء على مدحه والثناء عليه، ويكفيك إن كنت مادحًا أن تصف إنسانًا بالرجولة، أو أن تنفيها عنه لتبلغ الغاية في الذمِّ.

والرجل: قد يطلق ويراد به الذَّكَر، وهو ذلك النوع المقابل للأنثى، وعند إطلاق هذا الوصف لا يراد به المدح، وإنما يراد به بيان النوع؛ كما قال -تعالى-: (‌لِلرِّجَالِ ‌نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء: 7)، وقال -تعالى-: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ ‌يُورَثُ ‌كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ...) (النساء: 12)

وقد تطلق الرجولة ويُرَاد بها وصف زائد يستحق صاحبه المدح، وهو ما نريده هنا، فالرجولة بهذا المفهوم تعني القوة والمروءة والكمال، وكلما كملت صفات المرء استحق وصف الرجولة، وقد وصف الله بذلك الوصف أشرف الخلق؛ فقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ‌إِلَّا ‌رِجَالًا ‌نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف: 109).

فالرجولة: صفه لهؤلاء الكبار الكرام الذين تحمَّلوا أعباء الرسالة، وقادوا الأمم إلى ربِّها، وهي صفة أهل الوفاء مع الله، الذين باعوا نفوسهم لربِّهم -عز وجل-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ ‌صَدَقُوا ‌مَا ‌عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: 23)، وصفة أهل المساجد الذين لم تشغلهم العوارض عن الذِّكر والآخرة؛ قال -تعالى-: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ‌تِجَارَةٌ ‌وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور: 37)، (فِيهِ رِجَالٌ ‌يُحِبُّونَ ‌أَنْ ‌يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة: 108).  

من صفات الرجولة:

(1) عبودية الله -تعالى-: قال الله -سبحانه وتعالى-: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ‌تِجَارَةٌ ‌وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور: 37)، "فهؤلاء الرجال، وإن اتَّجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه، لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدِّموها ويؤثروها على: (ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)، بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه. 

ولما كان ترك الدنيا شديدًا على أكثر النفوس، وحبُّ المكاسب بأنواع التجارات محبوبًا لها، ويشق عليها تركه في الغالب، وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك، ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبًا وترهيبًا- فقال: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) من شدَّة هوله وإزعاجه للقلوب والأبدان؛ فلذلك خافوا ذلك اليوم، فسهل عليهم العمل، وترك ما يشغل عنه" (تفسير السعدي).

(2) علو الهمة: كأبي بكر -رضي الله عنه- الذي وقف ليجمع شمل الأمة بعد تفرقها، وقال قولته التي تكتب بماء العين لا بماء الذهب: "إنه قد انقطع الوحيُ، وتَمَّ الدِّينُ، ‌أَيَنْقُصُ ‌وأنا ‌حي؟!" (انظر: هداية الرواة، جامع الأصول).

وعبد الرحمن الداخل الذي عبر ثلاث قارات ليقيم في الأندلس دولة للإسلام، التي استمرت فيه وفي أولاده وأحفاده قرابة المائتي عام، وكان فيها أعظم حضارات الأندلس، بل والدنيا جميعًا. 

وعبد الرحمن الغافقي الذي وقف على بعد ثلاثين كيلو مترًا فقط من باريس، وكمحمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية بعد أن استعصت على المسلمين ثمانية قرون، وغيرهم كثير في أمة الإسلام في كل المجالات.

أما مَن كانت همته في لقمة يأكلها أو شربة يشربها، أو دنيا يصيبها؛ فلا يطمع في هذا الوصف. 

وللحديث بقية -إن شاء الله-.