كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
في الآية فوائد:
الفائدة الأولى: إثبات إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية، كما دَلَّ عليه قوله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
والإمامة في الدِّين فضل عظيم من الله، ومِنَّة مِنْه على مَن وَفَّي في عبادة ربِّه بما وجب عليه؛ ولذا فهي صفة يشترك فيها المؤمنون مع الأنبياء، وإن كان وصف الأنبياء فيها أعلى، لكن أصل الإمامة مما يصح اتصاف المؤمنين به، كما قال الله -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
ومما يدعو به عباد الرحمن كما قال -تعالى- في بيان صفتهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).
ولا يلزم من إمامة الدين تولي الحكم والسلطة، بل هي إمامة في الطاعة والعبادة، تحصل للعبد ولو لم يكن حاكمًا، وإنما يُقتدَى به في الخير؛ فإن جمع بين الأمرين -يعني الإمامة في الطاعة وحسن العبادة مع الولاية والسلطة- فهو كمال آخر، وإنما حصل للخلفاء الراشدين، ومَن سار على طريقتهم من الخلفاء العلماء العادلين، ولا يحصل ذلك لمن تولى وكان ظالمًا؛ لقول الله -سبحانه وتعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وكذا من كان جاهلًا.
ولا تنال هذه الإمامة إلا بهذين الوصفين: العلم والعدل، وقد أخطأ مَن وصف مِن ليس بعالم ولا بعادل بأوصاف الخلفاء الراشدين، وأعطاهم حقوقهم في وجوب الطاعة في المباحات والمستحبات والمكروهات؛ فعلًا وتركًا، وإنما تجب طاعة الخلفاء الراشدين، العلماء العادلين، في الإلزام بالمباحات وتقييدها والمنع منها، وكذا في ترك المستحب وفعل المكروه، وكذا الموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد؛ لعلمهم وعدلهم؛ فهم لا يأمرون بمباح، ولا يمنعون منه لمجرد رغباتهم، بل يعلمون أن ذلك لا يجوز لهم، وإنما قد يأمرون بمباح ويُلزِمون به، أو ينهون عنه ويمنعون منه إذا كان يترتَّب على الترك والفعل ترك واجب أو ارتكاب محظور محرَّم، ولا طريقة لمنع الواجبات وفعل المحرمات إلا بتقييد المباح أو الإلزام به.
وقد توسَّع أكثر المعاصرين ممن ينتسِبون إلى العلم، وما بلغوا معشار ما بلغ أئمة السلف في العلم؛ توسعوا في الإفتاء بحقِّ الحكام في تقييد المباح والإلزام به، والعقوبة على فعله وتركه؛ لمجرد أنهم تولوا الأمور، ويقولون: أَمَر وُلَاة الأمور بكذا... ونهوا عن كذا... دون النظر إلى أصل المسألة شرعًا: هل هي من المباحات، أم المستحبات أو المكروهات، أو الواجبات أو المحرمات، ولم ينتبهوا أن ذلك فيه تحريم للحلال أو إيجاب لما ليس بواجب، مع علمهم بعدم عِلْم هؤلاء، وعدم عدالتهم، ووقوعهم في أنواع من الظلم والعدوان التي نفى الله -عز وجل- من أجلها أن يَنَال الإمامة مَن كان مِن ذرية إبراهيم، فقال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
وإذا كان لا تُقبَل شهادة الظالم في باقة بقل؛ فكيف فيما هو أعظم من ذلك بكثير من الولايات العامة؟!
وإنما تقبل أوامرهم فيما عُلِم أنه طاعة من الواجبات وترك المحرمات، وبسبب هذه الفتاوى غير المنضبطة في حقِّ الحاكم في تقييد المباح والإلزام به؛ حدث عبر الزمان تبديل للشريعة؛ خصوصًا مع جرأة مَن يُنسَب إلى العلم بالإفتاء بفسق المُخَالِف ولو كان مؤديًا لطاعة، وبإثمه ولو كان يفعل مباحًا، وإنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (متفق عليه)، فحصر الطاعة في المعروف، وإنما دخل في المعروف في حقِّ العلماء العالمين العادلين أمرهم بمباح يترتب على تركه ترك واجب، أو فعل محرم، أو نهيهم عن مباح يترتب على فعله ترك واجب أو فعل محرم؛ فليست الطاعة لهؤلاء إلا في المعروف كنصِّ الحديث.
والأئمة العلماء العادلون دخل في المعروف أمرهم بمباح أو نهيهم عنه؛ لعلمهم وعدلهم، وأما غيرهم؛ فلو أمر الحاكم رجلًا بصلاة النافلة لم تصبح واجبة، ولو نهاه عنها لم تكن محرمه، ولو أن حاكمًا نهى رجلًا عن الزواج من امرأة معينة، أو قبل سنٍّ معين -له أو للمرأة-؛ لم يجب عليه الالتزام بذلك. ولو أنه أمره بطلاق امرأة لا يلزمه طلاقها لم يجب عليه التطليق، وكذلك لم يحرم عليه الزواج شرعًا قبل السن التي ذكرها مَن يقولون بحقِّ تقييد المباح!
وقد أصبح هذا الأمر وسيلة لتبديل الشريعة وتغيير أحكامها، وما أعظم ما دل عليه قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لبريرة -عندما شفع في عودتها لمغيث لشدة حبه لها- لما سألته: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ، قَالَ: (لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ) قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. (رواه البخاري).
فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لا يملك وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلزمها بما ليس بلازم؛ فكيف تجعلون هذه الدرجة من الإمامة لمن عُلِم فسقه، بل تتوسعون فيها لمَن علم نفاقه أو ارتكب بعض أنواع الكفر؟!
ومَن ينتسب للعلم في بلده، يعطونه مرتبة الإمامة التي هي للخلفاء الراشدين، بل للأنبياء، بل تجاوزوا ذلك حتى قال أحدهم: "الحاكم إذا أباح الخمر فهي مباحة!"، وهذا لا شك كفر وخروج من الدِّين لاستحلال المعلوم من الدين بالضرورة تحريمه، وبعضهم غلا حتى اشترط في صحة العبادة إذن الحاكم! فصار أشبه بطريقة فرعون الذي قال: (آمنتم له قبل أن آذن لكم)، وأما أمر الدعوة إلى الله وتوحيده فقد اتخذ أمر التنظيم والترتيب، وطاعة ولاة لأمور؛ ذريعة لمنع دعوة التوحيد، واتباع منهج السلف، وأهل السنة والجماعة، ومنع الدعاة إلى الله من قول الحق والإفتاء به؛ خلافًا لما يقوله مَن يداهن في الدين، ويجامل بالباطل، ولو كان من يقول بوحدة الوجود، وعدم الفرق بين الرب والعبد، فالكل شيء واحد! وإلى الله المشتكى.
حول اغتيال إسماعيل هنية:
اللهم اغفر لعبدك إسماعيل هنية، وارحمه وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبَرَد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم ابدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه.
اللهم قه فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار، اللهم اقبله في الشهداء، اللهم افسح له في قبره ونوِّر له فيه، واملأه عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، اللهم دمر على اليهود ومن والاهم، ومَن أعانوا على قتله أو سمحوا به أو تآمروا عليه.
ونسأل الله -عز وجل- أن يجعل للمسلمين في فلسطين فرجًا ومخرجًا، وأن ينجي المسلمين في غزة وفي السودان، وفي كل مكان.