كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
إن الإمامة في الدين قضية عظيمة الأهمية في حياة البشر؛ لأن الاقتداء والاتباع لدى البشر بالقدوة التي تكون منهم، أعظم أسباب هدايتهم؛ فإن التطبيق العملي لحقائق الإيمان والإسلام والإحسان أعظم أثرًا من مجرد التقرير النظري للقضايا؛ ولذا أرسل الله الرسل من البشر: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف: 109)، وجعلهم الله الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21).
وقال الله -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4)، وقال -عز وجل- بعد ذكر الأنبياء: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90).
وأصحاب الأنبياء ينتفعون بصحبتهم، ويقتدون بهم، ويصبحون أئمة في الخير والهدى، ويصبحون بعد ذلك هم القدوة لمن بعدهم، وهكذا حتى يتم توريث الدِّين الحق للأجيال المتتابعة، والالتزام به، ولقد جعل الله عز وجل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إمامًا للناس عبر الزمان والمكان، ثم كان إمام البشرية كلها محمد -صلى الله عليه وسلم- من ذرية إبراهيم، وقد جعله الله -عز وجل- رسولًا إلى الناس كافة؛ إلى الأحمر والأبيض والأسود، إلى العرب والعجم، إلى الإنس والجن، وأوجب على جميع المكلفين اتباعه، فقال: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ...) ومنها: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) (متفق عليه).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
وأورث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- اتباع ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، والتخلق بأخلاقه، والاتصاف بصفاته التي بها صار إمامًا؛ مِن: الحنيفية والقنوت لله -عز وجل-، والبراءة من الشرك والمشركين، وشكر نعم الله الدينية والدنيوية، والهداية إلى الصراط المستقيم، وأعظم الله عليه فضله، وكان فضل الله عليه عظيمًا، وأتم عليه نعمته، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وصار أعظم قدوة للبشرية على الإطلاق باتباعه ملة أبيه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، واتخذه الله خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (رواه مسلم)، بل يقول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة في موقف الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)، وإذا كان الأمر كذلك؛ لزمنا أن نعرف ما ذكر الله في كتابه من الصفات التي وُفِّق لها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حتى صار إمامًا للبشرية؛ لنقتدي به فيها، ونتأسى به الأسوة العظيمة الحسنة؛ عسى أن يجعلنا الله مع أنبيائه ورسله؛ خاصة محمد وإبراهيم -صلى الله عليهما وسلم-، وهذه الآية من سورة النحل تتناول هذه المسألة العظيمة فلنتدارسها، ولندرس تفسيرها وفوائدها؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "يمدح الله عبده ورسوله وخليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء، ويبرئُه من المشركين، ومن اليهودية والنصرانية، فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)؛ فأما الأمة فهو: الإمام الذي يُقتدَى به. والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ قال سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت؛ فقال: الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله.
وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم.
وقال الأعمش، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال: مَن نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له، فقال: أخبرني عن الأمة؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير.
وقال الشعبي: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن، وقال: إنما قال الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلم الخير. والقانت: المطيع لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كان معاذ.
وقد روي من غير وجه، عن ابن مسعود أخرجه ابن جرير. وقال مجاهد: أمة أي: أمة وحده، والقانت: المطيع. وقال مجاهد أيضًا: كان إبراهيم أمة، أي: مؤمنًا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار. وقال قتادة: كان إمام هدى، والقانت: المطيع لله.
وقوله: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) أي: قائمًا بشكر نعم الله عليه، كما قال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)؛ أي: قام بجميع ما أمره الله -تعالى- به.
وقوله: (اجْتَبَاهُ) أي: اختاره واصطفاه، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء: 51)، ثم قال: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي.
وقوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي: جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وقال مجاهد في قوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي: لسان صدق.
وقوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي: ومن كماله وعظمته، وصحة توحيده، وطريقه: أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل، وسيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم-: أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله في "الأنعام": (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161)" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وتليه فوائد الآيات -إن شاء الله-.