كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيقول ابن كثير -رحمه الله- في قصص الأنبياء: "لما تمادى قبط مصر على كفرهم، وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران -عليه السلام- أقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحيَّر العقول، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون، ولم يؤمن منهم إلا القليل!)، (وقيل: بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون، والسحرة كلهم، وجميع شعب بني إسرائيل. ويدل على هذا قوله -تعالى-: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (يونس: 83). والضمير في قوله -تعالى-: (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) عائد على فرعون؛ لأن السياق يدل عليه.
"وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته، وجبروته وسلطته، ومِن ملأهم أن يَنِمُّوا عليهم فيفتنهم عن دينهم" (انظر قصص الأنبياء لابن كثير - ط. مكتبة حميدو - الإسكندرية - تحقيق عبد المعطي عبد المقصود محمد - 1410 هـ - 1990، ص 388 بتصرفٍ).
وعند ذلك قال موسى -عليه السلام-: (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (يونس: 84-86)، فأمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك، فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجًا ومخرجًا (المصدر السابق).
وتأهب بنو إسرائيل فيما بينهم للرحيل إذا أمروا بذلك واستعانوا على ما هم فيه من الضر والضيق بكثرة الصلاة، كما في قوله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (البقرة: 45). قال -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 87).
تحرك بني إسرائيل للخروج من مصر:
قال -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (الشعراء: 52). والإسراء لغة: السير ليلًا، كما قال الله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1).
قال مفسرون -وقال غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى-: "استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج لعيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج (يعني من مصر) وتأهبوا له، وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم" (المصدر السابق).
وقام بنو إسرائيل فيما ذكره أهل الكتاب باستعارة حليٍّ من قبط مصر، فأعارهم المصريون حليًّا كثيرًا، فخرجوا بليل، فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام.
مواجهة غير متوقعة:
"فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجميع جنوده ليلحقهم ويمحقهم؛ قال الله -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ . فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) (الشعراء: 52-56).
قال ابن كثير في تفسيره: "فلما أصبحوا وليس في ناديهم داعٍ ولا مجيب؛ غاظ ذلك فرعون، واشتد غضبه على بني إسرائيل، لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعًا في بلاده حاشرين، أي: من يحشر الجند ويجمعه: كالنقباء والحجاب، ونادى فيهم: (إِنَّ هَؤُلَاءِ) يعني بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) أي: لطائفة قليلة (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) أي: كل وقت يصل إلينا منهم ما يغيظنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) أي: نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم، فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم؛ قال -تعالى-: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) أي: فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق، والملك والجاه الوفير في الدنيا (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء: 59)، كما قال -تعالى-: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأعراف: 137)، وكما قال -تعالى-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)" (تفسير القرآن العظيم).
فركب فرعون في جنوده طالبًا بني إسرائيل، يقفو أثرهم في جيش كثيف عرمرم، فلحقهم بجنوده، وأدركهم عند شروق شمس يوم عاشوراء، وتراءى الجمعان، ولم يبقَ ثَمَّ ريب ولا لبس، فقد عاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، فلم يبقَ إلا المقاتلة والمجادلة؛ قال الله -تعالى-: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (الشعراء: 60)، أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس وهو طلوعها (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 61، 62)، (الشعراء:60 - 62). وقال أصحاب موسى وقد تملكهم الخوف (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف (ساحل) البحر، وهو بحر القلزم (تفسير ابن كثير)، وبحر القلزم هو البحر الأحمر، فلم يعد لهم طريق؛ إذ البحر أمامهم، والجبال عن يمينهم وعن يسرتهم، وهي شاهقة مرتفعة، وفرعون قد واجههم في جنوده وعدده وعتاده، ولم يبقَ إلا أن يتقاتل الجمعان، وهم لا قِبَل لهم بهم، ولا محيد إلا خوض البحر، وهذا ما لا يقدرون عليه، فصاروا في غاية الذعر والخوف من بطش فرعون، لما قاسوه في ملكه وسلطانه من قبل من الإهانة والذل.
لذا شكوا إلى نبي الله موسى -عليه السلام- ما هم فيه مما شاهدوه وعاينوه، فأجابهم وهو الصادق المصدوق: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، "أي: لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله -سبحانه- هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم، وهو -سبحانه وتعالى- لا يخلف الميعاد" (المصدر السابق).
وكان موسى -عليه السلام- في الساقة (المؤخرة)، فتقدم على المقدمة، ونظر إلى البحر وأمواجه تتلاطم، لقد أمر أن يكون هنا! ووقف معه كبار بني إسرائيل من العلماء والعباد ورجال القوم ينظرون، والجميع وقوف عليهم عكوف، فلما تفاقم الأمر وضاق الحل واشتد الكرب، واقترب فرعون وجنوده وهم في حال من الغضب والحنق، زاغت أبصار بني إسرائيل وبلغت القلوب الحناجر؛ عندها أوحى الله -تعالى- الحليم العظيم القدير إلى موسى الكليم: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) (الشعراء:63)، فلما ضرب موسى البحر انفلق البحر فرقين، كل فرق منهما كالطود العظيم، وهكذا صار ماء البحر قائمًا مثل الجبال، مكفوفًا بقدرة الله -تعالى-، وأرضه يابسة تسمح بسير الخيل والدواب والناس عليها؛ قال -تعالى-: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء: 63).
فـ"صار الماء من ها هنا وهاهنا كالجبلين، وصار وسطه يابسًا" (المصدر السابق)، فلما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الله -تعالى- أمر موسى بني إسرائيل أن يجوزوه، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، وقد شاهدوا بأعينهم من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويثلج قلوب المؤمنين.
فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه.
ولما هَمَّ موسى -عليه السلام- أن يضرب البحر من جديد ليرجع البحر كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصولًا إليه ومجاوزته، أمره الله -تعالى- أن يترك البحر على حالته كما هي، قال -تعالى-: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (الدخان: 24).
قال ابن كثير: "فقوله -تعالى-: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) أي: ساكنًا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة؛ قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة، والربيع والضحاك وقتادة، وكعب الأحبار، وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. فلما تركه على هيئته وحاله وانتهى إليه فرعون، فرأى ما رأى وعاين ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم) (المصدر السابق).
وبعد تردد لم يطل اقتحم فرعون وجنوده البحر من ناحيته الأخرى وراء بني إسرائيل مسرعين، فدخلوا البحر أجمعين، "فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه فرجع الماء كما كان عليهم" (المصدر السابق).
"فعند ذلك أمر الله -تعالى- كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر، فضربه، فارتطم البحر عليهم كما كان، فلم ينجُ منهم إنسان، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، قال الله -تعالى-: (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء: 65-68) أي: في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد؛ آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته -تعالى- العظيمة وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة" (المصدر السابق).
وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى . فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ . وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) (طه: 77-79).
القرآن الكريم يصف اللحظات الأخيرة في حياة فرعون:
قال -تعالى-: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس: 90-92).
يقول ابن كثير: "يخبر -تعالى- عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط، وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة وترفعه أخرى، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ماذا أحل الله به، وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم، ليكون أقر لأعين بني إسرائيل وأشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به، وباشر سكرات الموت، أناب حينئذٍ وتاب، وآمن حين لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال -تعالى- (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 96-97)، وقال -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر: 84، 85).
وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه أن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، أي: حين لا ينفعهم ذلك، ويكون حسرة عليهم، وقد قال -تعالى- لهما -أي: لموسى وهارون- حين دعوا بهذا: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) (يونس: 89)، فهذا من إجابة الله -تعالى- دعوة كليمه وأخيه هارون -عليهما السلام-" (المصدر السابق).
"وهذا الذي حكاه الله -تعالى- عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك، من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-" (تفسير ابن كثير).
"وقوله -تعالى-: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس: 91) استفهام إنكار، ونص على عدم قبوله -تعالى- منه" (قصص الأنبياء:397).
قال ابن كثير: "(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) أي: أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي: في الأرض، الذين أضلوا الناس (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) (القصص: 41)" (تفسير ابن كثير).
"وقوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) (يونس: 92)، قال ابن عباس وغير واحد: شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون"، "فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سويًّا بلا روح وعليه درعه المعروفة، فرفعه على نجوة من الأرض، وهو المكان المرتفع، وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه، ليتحققوا موته وهلاكه، ويعلموا قدرة الله عليه؛ ولهذا قال: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) أي: مصاحبًا درعك المعروفة بك (لِتَكُونَ) أي: أنت آية (لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي: من بني إسرائيل، ودليلًا على قدرة الله الذي أهلكك".
"ويحتمل أن المراد: ننجيك بجسدك مصاحبًا درعك، لتكون علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وأنك هلكت. والله أعلم" (قصص الأنبياء بتصرفٍ).
ذكر ابن كثير في قصص الأنبياء، وكذلك في تفسيره لسورة يونس الآية (92)، أن هلاك فرعون وجنوده كان في يوم عاشوراء، كما ذكر الإمام البخاري في صحيحه، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمُ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
وهكذا كان زوال ملك فرعون وسلطانه، وكان انعتاق بني إسرائيل من الخضوع لفرعون وطغيانه، وبدء التمكين لهم في الأرض: قال -تعالى-: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ . وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف: 136، 137).
قال ابن كثير: "أي: أهلك ذلك جميعه، وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا، وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه، ولم يبقَ ببلد مصر سوى العامة والرعايا" (قصص الأنبياء).
وقال -تعالى-: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ . وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ . كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ . فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ . وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ . مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ . وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ . وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ) (الدخان: 23-33)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة: 20).
قال ابن كثير: "وكان بين خروج بني إسرائيل من مصر بصحبة موسى -عليه السلام- وبين دخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل -أي: يعقوب عليه السلام- أربعمائة سنة وستًا وعشرين سنة شمسية" (قصص الأنبياء). وفي موضع آخر ذكر ابن كثير نقلًا عن أهل الكتاب: "وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة"، وقال: "هذا نص كتابهم" (قصص الأنبياء).
مصير حلي قوم فرعون:
لما ذهب موسى -عليه السلام- بعد ذلك "إلى ميقات ربه، فمكث على الطور يناجيه ربه، ويسأله موسى عن أشياء كثيرة، وهو -تعالى- يجيبه عليها، عمد رجل من بني إسرائيل يقال له السامري فأخذ ما استعاروه من الحلي من المصريين قبل خروجهم من مصر، فصاغ منه عجلًا، وألقى فيه قبضة من التراب كان أخذها من أثر فرس جبريل -عليه السلام- حين رآه يوم أغرق الله فرعون، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي. وقيل: كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة فيرقصون حوله ويفرحون! (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) (طه: 80) أي: فنسي موسى ربه عندنا، وذهب يطلبه وهو هاهنا، -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
قال الله -تعالى- مبينًا بطلان ما ذهبوا إليه، وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاره أن يكون حيوانا بهيما أو شيطانًا رجيمًا: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) (طه: 89)، وقال: (?أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف:148).
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي: ندموا على ما صنعوا (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 149).
ولما رجع موسى -عليه السلام- إليهم ورأى ما هم عليه من عبادة العجل)،(عنفهم ووبخهم في صنيعهم هذا القبيح، فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح، فقالوا: (حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) (طه: 87)، تحرجوا من تملك حلي آل فرعون ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار مع الواحد الأحد الصمد القهار!
فعمد موسى -عليه السلام- إلى هذا العجل فحرقه، قيل: بالنار، كما قاله قتادة وغيره. وقيل بالمبارد، -أي: برده بها- كما قاله علي وابن عباس وغيرهما، وهو نص أهل الكتاب، ثم ذراه في البحر.
ثم قال -تعالى- إخبارًا عن موسى -عليه السلام- أنه قال لهم: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) (طه:98)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (الأعراف: 152)، وهكذا وقع. (راجع: قصص الأنبياء بتصرفٍ).
وجوب العمل بمقتضى أيام الله وقصصه في القرآن الكريم:
ختم الله -تعالى- كلامه عن قصة موسى عليه السلام وفرعون وقومه وما ذكره من أحداثها بقوله -تعالى-: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا . مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا . خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) (طه: 99-101).
قال ابن كثير: "يقول -تعالى- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة أو نقص. هذا (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا) أي: من عندنا (ذِكْرًا) وهو القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي لم يعطَ نبي من الأنبياء منذ بعثوا حتى ختموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- كتابًا مثله ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق، وخبر ما هو كائن، وحكم الفصل بين الناس منه" (تفسير ابن كثير).
وقال -تعالى-: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (الجاثية: 14،15).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "يأمر الله -تعالى- عباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيام الله، أي: لا يرجون ثوابه ولا يخافون وقائعه في العاصين، فإنه -تعالى- سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون. فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم ثوابًا جزيلًا، وهم إن استمروا على تكذيبهم فلا يحل بكم ما حل بهم من العذاب الشديد والخزي؛ ولهذا قال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (الجاثية: 15)" (انظر: تيسير الكريم الرحمن).