الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 يونيو 2024 - 9 ذو الحجة 1445هـ

مؤسسة تكوين الفكر العربي (5) بعد مائة عام من فشل الحملة الأولى.. تكوين تطلق الحملة الثانية ضد القرآن الكريم!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد استعرضنا في المقالات السابقة بعض الانحرافات الفكرية لـ"مؤسسة تكوين"، وبعض هذه الانحرافات التي ينادون بها اعتدنا عليها، كالشبهات الموجَّهة إلى السنة النبوية؛ سواء الشبهات المتعلقة بحجيتها أو بتدوينها، أو بدلالتها، وغير ذلك مما يهرف به "إبراهيم عيسى"، و"إسلام البحيري!".

بل حتى افتراءات "يوسف زيدان" على "صلاح الدين" -رحمه الله-، وزعمه أن المسجد الأقصى في الطائف، تحولت إلى ما يشبه المقاطع الفكاهية، طبعًا جنبًا إلى جنب مع مقطعه الأشد إضحاكًا الذي يتحدث فيه عن "توابل بردة كعب" -رضي الله عنه-، والمقطع الذي دافع فيه عن المقطع الأول زاعمًا أن "بردة البوصيري" أيضًا لم تخلُ من التوابل!

فما الجديد في مؤسسة تكوين؟!

الجديد أن مجلس أمناء مؤسسة تكوين، يضم:

- "فراس سواح"، والذي يقدَّم على أنه متخصص في علم تاريخ الأديان!

- كما يضم "نايلة أبي نادر"، والتي ذَكَر موقع المؤسسة أنها حاصلة على الدكتوراة، وعنوان رسالتها كان: "خصوصية المنهج النقدي في الفكر العربي الإسلامي المعاصر من خلال محمد أركون، ومحمد عابد الجابري".

- كما يضم "ألفة يوسف" التي عرفها موقع المؤسسة بأنها باحثة في الإسلاميات، والتحليل النفسي، وقضايا الجندر.

وهؤلاء الباحثون الثلاثة أجانب عن مصر كجنسيات، ولكن ليس هذا هو المهم، وإنما المهم أنهم ينتمون إلى بلاد نجح فيها التغريبيون والعالمانيون أن يعبثوا باسم البحث العلمي في ثوابتٍ لم يقبل المجتمع المصري عبر تاريخه حتى مجرد طرحها على مائدة المناقشة:

- فقد تكلَّم رفاعة الطهطاوي عن الانبهار بالانحلال الأخلاقي في فرنسا: وإن كان قد أعقبه بتعقيب خافت أنه لا ينصح المسلمين به؛ فثار الجميع ضده "وعلى رأسهم الأزهر".

- و طرح "علي عبد الرزاق" دعوى: أن الاسلام لا يتضمن نظامًا للحكم؛ فثار ضده الجميع "وعلى رأسهم الأزهر".

- وردَّد الحداثيون شبهات كثيرة حول السنة: فتصدَّى لها العلامة "محب الدين الخطيب، والعلامة محمد رشيد رضا"، وغيرهما.

- ثم جمعها "أبو رية" في كتابه المظلم: "أضواء على السنة النبوية" الذي نشره في عام 1957م، وإن كانت الشبهات ذاتها كانت مطروحة في الصحافة المصرية والعربية منذ بدايات القرن العشرين، فلما نُشِر كتاب أبي رية؛ كلَّف الأزهر العلامة "محمد أبو شهبة" لكتابة رد عليه، فكتب كتابه القيم: "دفاع عن السنة النبوية"، وتولَّت مجلة الأزهر -وكان يرأس تحريرها حينها العلامة محب الدين الخطيب- نشر الكثير من الردود عليه.

وكل هذه المعارك تصدت لها الأمة، وبقي للمستشرقين وأذنابهم تلاميذ، ولدعاة الحق تلاميذ؛ حتى انتهى أمر الطعن في السنة في مصر إلى إبراهيم عيسى، والبحيري، وفي المقابل -بفضل الله تعالى- ما زال يوجد مَن يبدِّد ظلام هذه الشبهات.

ولكن المعركة الكبرى كانت في الطعن في القرآن ذاته! وهي معركة دارت رحاها في معظم البلاد العربية، وانتهت في بعض البلاد العربية إلى ما انتهت إليه معركة الطعن في السنة؛ أن المعركة مستمرة، فهناك مَن يرث الضلالة وينشر الطعن في القرآن، ومِن أبرزهم في العصور المتأخرة: محمد أركون، والجابري، وهناك بلا شك علماء وأدباء ومصلحون يردون ويفندون،
ولكن في مصر كانت القصة مختلفة -بفضل الله- حيث لم يقبل المجتمع المصري حتى وجود تلك الشبهة كشبهة، ولم يسمح أن تُكتب حتى في كتاب ملقى على رفٍّ في مكتبة نائية.

وإليك تفاصيل تلك المعركة:

- في مصر كانت الطعون في القرآن تأتي من المستشرقين أو من تلاميذهم الذين لم تعتبرهم الأمة جزءًا منها: كسلامة موسى، وغيره.

- ولكن الصدمة الكبرى حصلت لما جاءت عن طريق أحدِ مَن درسوا في الأزهر، وهو: "طه حسين"؛ الذي لمز عصمة القرآن في مواطن من كتابه: "في الشعر الجاهلي" الذى نشره عام 1926 كما تقدَّم في مقالة سابقة، ولكن الانتفاضة المصرية المتمثلة في قادة الفكر الإسلامي: كالشيخ محمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، والأزهر، وهيئة كبار علمائه، وشيخه، واللجنة الخاصة التي كوَّنها شيخه للرد على الكتاب، والحكومة والقصر، والنيابة العامة، والساسة، والوطنيين مثل: "محمد فريد وجدي"، والأدباء، وعلى رأسهم الأديب الألمعي: "مصطفى صادق الرافعي" الذي كشف عوار أدب طه حسين، وكشف عوار مدير الجامعة المصرية الذي مكَّنه من تدريس كتبه في الجامعة "أحمد لطفي السيد"، ودافع عن القرآن وعن بلاغته، وعن علومه، وبيَّن البُعد الشديد بين طه حسين وبين العربية، وأنه يحتاج مَن يترجم له من العربية إلى العربية!

وفى النهاية تراجع طه حسين عن كتابه، وجعل الطبعة الجديدة كتابًا مختلفًا بعنوان آخر، وهو: "في الأدب الجاهلي"، ويا للأسف طه حسين تراجع عن هذا، ولكنه في عام 1938 كتب كتابًا بعنوان: (مستقبل الثقافة في مصر) يؤصِّل للتغريب، وفي عام 1957 نال نصيبًا من الطعن الثاني، وهو تقديمه لكتاب صديقه "أبي رية": (أضواء على السنة النبوية)، والذي أصَّل فيه للطعن في السنة النبوية.

وقد قدَّمنا في مقالات خاصة عن تراجعات طه حسين: أن طه حسين "تحسن فكره" في آخر حياته فيما يتعلق بالقرآن، ولكنه من حيث السنة والسيرة بقي فيها على الشكوك التي أثارها صاحبه أبو رية، أو على كثير منها -على الأقل-.

المهم: أن المجتمع المصري لم يقبل حتى أن يوجد على رفٍّ من أرفف مكتباته، كتابًا يطعن في القرآن، ولم يقبل أن يطرح في صالون ثقافي ولو كان يضم بضعة نفر أي طعن في القرآن.

ثم جاء "نصر حامد أبو زيد" فلم يجرؤ أن يطعن في القرآن صراحة فصب هجومه على الإمام الشافعي -رفع الله قدره بمقدار ما تنبَّه مبكرًا لتلك الحرب فحَصَّنَّا منها بكتابه الماتع: "الرسالة"-، فجعل نصر حامد أبو زيد طعنه في القرآن مستترًا، وأظهره وكأنه نقد لكتاب: "الرسالة"، وفي صاحبه الإمام الشافعي!

وحقيقة طعنه كان في القرآن؛ فهو يريد أن يُعَامَل القرآن ككتاب تاريخي، وأن تُعَامَل نصوصه كتراث أدبي، وليست كنصِّ خطاب من عند الله ملزم لعباده، فزعم نصر حامد أبو زيد: أن من أصَّل أن القرآن خطاب، وأن له قواعد تفسير ملزمة، وأن السنة هي المصدر الرئيسي لتفسير القرآن وبيان مجمله، إلخ؛ فزعم أن كل هذه المعاني من اختراع الامام الشافعي!

ورغم هذا التترس والاستتار والتخفي؛ إلا أن القضاء المصري أصدر حكمه بردَّتِه؛ لأن كلامه في حقيقته طعن في القرآن.

والآن ماذا تريد تكوين؟!

هي لا تريد فقط أن تعيد نشر برامج إبراهيم عيسى وإسلام البحيري، فهي برامج فضائية؛ أي: أنها منشورة بأعلى وسيلة نشر، ومعهم كتيبة من كتائب العالمانيين يروعون كلَّ مَن يرد عليهم، ويتهمونه بالإرهاب، ويهددون القضاء ذاته متى حكم على أحد هؤلاء بما يستحقه من جرائم الطعن في الثوابت!

ولكن تكوين تريد فوق هذ الضلال: أن يوجد موقع إنترنت يُنشر عليه دراسات مقتبسة من فكر أركون الذي يقول بالأفكار الكفرية التالية:

- أنسنة الوحي أو الظاهرة القرآنية: فهو يزعم أن المصحف أُخِذ من الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن مع زيادة ونقصان! وبالتالي فمن حق أي أحد أن يدعي في كل آية يستشكلها عقله المريض، أنها مما زاده كُتَّاب المصحف!

ومن المعلوم إجماع الأمة على ردة من اعتقد أن القرآن قد زيد فيه ونقص؛ وذلك أن الله -تعالى- يقول: (‌إِنَّا ‌نَحْنُ ‌نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا ‌لَهُ ‌لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).

- وفوق هذا: فقد أوجد أبوابًا أخرى للتكذيب بالقرآن، منها: زعمه أن الله -تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا- حكى أساطير كاذبة بصيغة الخبر، فيما أوحى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي فمن الممكن أن تكون قصة خلق آدم -مثلًا- أسطورة كاذبة، قصد بها دعوة الناس إلى الوحدة والاتحاد؛ لأن أباهم واحد، ولأن الناس في ذلك الزمان لم يكن لديهم استعداد لتقبل فكرة أنهم انحدروا من نسل قرد، فلما تقدَّم بهم العلم وعرفوا هذا، حينئذٍ اكتشفنا ان ما في الوحي أسطورة! (هذا إفكهم وضلالاهم -نعوذ بالله من هذا الكفر الواضح المستبين-، ولا شك أن كل إنسان سوي لا يمكنه أن يطمئن إلى أنه منحدر من نسل حيوان؛ فكيف بإنسان مؤمن يجزم بصدق ما أخبره الله به من أن أباه الأول كان مخلوقًا مكرَّمًا، خلقه الله في أحسن صورة؟!).

- وفوق هذا، فما زال عنده متسع للعبث بالقرآن أكثر حينما يزعم أن القرآن خطاب رمزي، يمكننا تفسيره بقواعدنا نحن، ونطوعه لأهوائنا نحن!

وهذه الطوام يشارك محمد أركون فيها فراس سواح، ربما باستثناء النقطة الأولى، ولكنه يدندن كثيرًا حول احتواء القرآن على أساطير، وحول رمزية القرآن!

وفوق هذا، هو مؤصل لفكرة تطور العقيدة من عبودية البشر، واتخاذ الأصنام رمزًا لزعماء القبائل، بل ويزعم أن البشرية اتفقت على إلهة أنثى يسميها عشتار! وفي مرحلة انتقالية من عبودية الأنثى الكبرى في العائلة إلى عبودية شيخ القبيلة الذكر.

الخلاصة: بعد مائة عام من سحب كتاب: "في الشعر الجاهلي" من الأسواق هربًا من غضبة مصر - حكومة وشعبًا، وأزهرًا، ومصلحين (قبل أن يتراجع صاحب الكتاب نفسه عن قناعة)-؛ جاء مؤسسو تكوين كالحية الرقطاء، يثيرون الكثير من الزوابع، ويلتقطون الصور مع زجاجة بيرة، ويختلط رجالهم بنسائهم على طريقة المراقص، ويصدمون العامة قبل الخاصة في التشكيك في سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما عرفوها!

ووسط كل هذه المعارك الخطيرة -والتي يجب علينا مواجهتها-: نجد أنهم -في خفية- قد فعلوا الجريمة الكبرى -والكثير عنها غافلون-، وهي: تدشين موقع إنترنت لهم، وهو موقع مصري، ويمكن الوصول إليه من داخل مصر، ويمكن أن يظهر لمن يجري بحثًا على الإنترنت على أي موضوع في القرآن أو السنة، أو السيرة، وفيه كلام لم تقبل مصر القصر، والعلماء، ومؤسسة الأزهر "ولا الشعب من باب أولى" أن توجد نسخة من كتاب ملقى على رفٍّ في مكتبة يتضمن "خمسة أسطر فيها طعن في القرآن العظيم".

فهل سنرى تحركًا مماثلًا ينسِف تكوين، ويغلق موقعها، ويُحَاكِم منشِئيها بتهمة الطعن في الثوابت، وبتهمة التمويل الخارجي الذي اعترفوا به جهارًا نهارًا؟!

وأختم هذه المقالة بديباجة التقرير الذي كتبته اللجنة التي ألَّفها شيخ الأزهر لدراسة كتاب: "في الشعر الجاهلي":

ديباجة تقرير لجنة الأزهر حول كتاب في الشعر الجاهلي:

"وموضوعه -الضمير عائد على كتاب في الشعر الجاهلي-: إنكار الشعر الجاهلي، وأنه منتحَل بعد الإسلام، لأسبابٍ زعمها. وقال: إنه بنى بحثه على التجرد من كل شيء حتى من دينه وقوميته عملًا بمذهب ديكارت الفرنسي! والكتاب كله مملوء بروح الإلحاد والزندقة، وفيه مغامز عديدة ضد الدين مبثوثة فيه، لا يجوز بحال أن تلقى إلى تلامذة لم يكن عندهم من المعلومات الدينية ما يتقون به هذا التضليل المفسِد لعقائدهم، والموجب للخلاف والشقاق في الأمة، وإثارة فتنة عنيفة دينية ضد دين الدولة ودين الأمة.

وترى اللجنة:

أنه إذا لم تُكافَح هذه الروح الإلحادية في التعليم،

ويقتلع هذا الشر من أصله،

وتُطهَّر دور التعليم من (اللا دينية) التي يعمل بعض الأفراد على نشرها بتدبير وإحكام، تحت ستار حرية الرأي؛

اختل النظام،

وفَشَتِ الفوضى،

واضطرب حبل الأمن؛

لأن الدِّين هو أساس الطمأنينة والنظام".

اللهم قد بلغت... اللهم فاشهد.