الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 27 مايو 2024 - 19 ذو القعدة 1445هـ

مؤسسة تكوين الفكر العربي (3) إبراهيم عيسى يواصل تكوين كتابه "أَسَد" الغابة في الطعن في السيرة والصحابة!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كانت المقالة الأولى في هذه السلسلة بعنوان: "باحثون لا يقرؤون.. والنتيجة توابل في بردة كعب ومقدمة للموطأ لم يقرأها إلا البحيري!".

وقد خلصنا من هذين الموقفين الكاشفين إلى تلك الخلاصة:

"الخلاصة التي لا مناص منها: أن كلَّ واحدٍ من هؤلاء يُحدثنا بما يترجمه عن آراء المستشرقين، دون أن يُكلِّف نفسه حتى أن يفتح كتابًا ليبدو الأمر كما لو كان قد قام بالبحث!

ولعل لسان حالهم يكون ترديدًا لقول الشيخ علي عبد الرازق عن قوله في كتاب: "الإسلام وأصول الحكم": إن الإسلام مجرد علاقة روحية بين العبد وبين ربه: "إنَّها عبارة ألْقاها الشيطان على لسانه!".

فلا ندري... كم عبارة ألقاها الشيطان على لسان وقلم أقوام، ولكن يسهل رصدها؛ فهي تلك العبارات المصادمة لنصوص الكتاب والسنة، الدخيلة عما ارتضته الأمة عبر تاريخها، والتي متى طولب صاحبها أن يسند لنا عباراته استعان بالمراوغة والكذب، أو الإحالة على مخطوطات نما إلى علمه أن غيره قد اطلع عليها، ولكن في هذه الحالة سيبقى محتاجًا إلى تبرير علي عبد الرازق: "الشيطان الذي يكتب بقلم أحدهم ما يكتب".

على أنه كانت هناك عشرات الأمثلة يختص منها الأستاذ "إبراهيم عيسى" بمواقف لا تقل دلالة عن موقفي: توابل يوسف زيدان، ومقدمة الموطأ التي لم يرها إلا إسلام البحيري!

وهي طريقة نُطْق إبراهيم عيسى لمرجع رئيسي -زعم أنه استقى منه كثيرًا من سمومه في أحد برامجه!-، وهو كتاب: "أُسْد -(بضم الهمزة)- الغابة في معرفة الصحابة" ، ولكن إبراهيم عيسى كان يقرأها أَسَد الغابة (بفتح الهمزة!). 

وقد صحح له هذا النطق أحد المتصلين لما كان إبراهيم ضيفًا في برنامج عمرو أديب، وهو موجود على اليوتيوب، وبالطبع عنوان: "أَسَد الغابة" يأخذنا في طريق كتابات الأطفال، أو حكايات ألف ليلة وليلة، ولا أدري: لماذا ترك إبراهيم عيسى عالم الحيوان والقصص الأسطورية؛ لينصب نفسه باحثًا تاريخيًّا في التاريخ الإسلامي!

ومرة أخرى نحن أمام ظاهرة خطيرة:

-عندما يخطئ من يدعي البحث في اسم كتاب يزعم أنه مرجع رئيسي لبحثه؛ فهذا يعني أنه منتحل للبحث، وهذا يدفعنا أن نبحث نحن عن الباحث الأصلي (ولن نجد صعوبة في اكتشاف أن الباحث الرئيسي هم المستشرقون!).

-الأمر الأنكى: أنه ليس فقط منتحلًا للبحث، ولكنه حتى لم يكلِّف نفسه أن يتحقق منه ولو بمراجعة المصادر الأصلية!

- والأشد من هذه وتلك أنه حجب عنا صاحب البحث الأصلي؛ لأن القارئ إذا علم أن الباحث عدو لديننا وحضارتنا؛ فبلا شك سيكون الأصل في بحثه التهمة.

- والأخطر من هذا كله: أن كلام المستشرقين ليس بجديد، بل بدأ منذ عدة قرون، وسبقهم إليه بعض الزنادقة، وهو -على الأقل- منشور على نطاق واسع منذ بدايات القرن العشرين؛ أي: منذ قرن كامل كُتبت خلاله عشرات -إن لم يكن مئات- الردود على كل شبهة أثارها المستشرقون، فمن خيانة الأمانة أن يأتي أحد ليردد كلام المستشرقين ناسبًا إياه لنفسه باعتبار أنه نقد من داخل الصف الإسلامي، وأن يتعامى عن هذه الردود؛ فلا يعرِّج عليها، ولا يشير إلى حرف منها!

وبالتالي: لما نشرتْ لنا تكوين فيديو لإبراهيم عيسى بعنوان: "هل السيرة النبوية صحيحة؟"، كان يغلب على ظني مسبقًا أن الفيديو سيردد شبهات المستشرقين، وقد كان؛ إلا أنني لما تصفحت موقع تكوين فوجئت بمقالة بعنوان: "لغز ابن إسحاق: سيرة كاتب السيرة النبوية" لأحمد شوربجي، وهالني التطابق بين المقال والفيديو حتى يخيل لك أن إبراهيم عيسى قد خرج ليقرأ علينا مقالة زميله التكويني دونما إشارة، أو أن الثاني هو مَن فرَّغ حلقة إبراهيم عيسى ونسبها في مقالة لنفسه!

ويبدو أن الاحتمال الأول أقرب؛ لأن الفارق الوحيد تقريبًا في العنوان، وعنوان شوربجي أكثر مطابقة لأفكار المستشرقين؛ فهو يكرس لأمرين:

الأول: أن المصدر الوحيد لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- هو سيرة ابن إسحاق. (حقيقة الأمر أن موقع هذا المصدر في أدبيات السيرة هو إكمال الرابط القصصي، وأما المواقف المؤثرة عقديًّا وفقهيًّا وأخلاقيًّا فموجودة فيما نزل من آيات تتعلق بوقائع السيرة، وبما اعتنى به أهل العلم فرووه بإسناد كتب أحاديث الأحكام في البخاري ومسلم، وكتب السنن والمسانيد، وغيرها من كتب السنة).

والثاني: أن ابن إسحاق اختلف العلماء فيه بين توثقيه وتوهينه، وأن قواعد علم المصطلح تقتضي تغليب جانب الجرح، وبالتالي نجد أن الكاتب اختار لمقالته عنوان: (سيرة كاتب السيرة النبوية)، فشوربجي أراد أن يكون عنوان مقاله أهدأ من مضمونه، على العكس من إبراهيم عيسى الذي جعل عنوان مقطع الفيديو الخاص به صادمًا إلى أقصى درجة، فطرح سؤال: (هل السيرة النبوية صحيحة؟!)، والسؤال بهل تكون إجابته: بنعم أو لا. ولا شك أن مجرد طرح هذا السؤال سوء أدب مع سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أن إبراهيم امتن علينا في نهاية كلامه باعتبار أن هناك مصدرًا وحيدًا صحيحًا للسيرة، وهو القرآن الكريم.

إذًا فطرح سؤال: (هل السيرة النبوية صحيحة؟) كان طرحًا ينم عن فقر في اللغة، أو عن سوء قصد؛ لأننا لو افترضنا أن إجابته صحيحة (وهي ليست كذلك قطعًا)، فكان يجب أن يوجِّه سؤاله للمصادر التي تَشكَّكَ فيها، وهي: سيرة ابن إسحاق -كما فعل زميله شوربجي-؛ إلا أنه أراد أن يجوِّد، فكانت النتيجة مزيدًا من التورط في الوحل كالمعتاد!

والخلاصة: أن ما كتبه شوربجي وقرأه إبراهيم كلام قديم قاله المستشرقون.

وقد فنَّده كثير من الكتاب في كتب كثيرة، منها: كتاب: "سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمستشرقون"، وكتاب: "السيرة النبوية وكيف حرَّفها المستشرقون"، ومنها: "المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي"، وبعض المؤلفات تخصصت في نقد طريقة تناول مستشرقين معينين للسيرة، مثل: "السيرة النبوية في فكر مونتجمري وات، وكارين أرمسترونج.. دراسة تحليلية تقويمية".

ومنها مَن توسَّع في بيان مصادر ابن إسحاق في السيرة؛ لبيان عور نظرة المستشرقين لسيرة ابن إسحاق، مثل كتاب: "مصادر سيرة ابن إسحاق"، ومنهم من لخَّص كل ذلك في مقدمة كتاب عن السيرة النبوية، مثل: مصطفى السباعي في مقدمة كتابه: "السيرة النبوية".

ومِن أجود مَن فعل هذا "محمد رجب بيومي" في كتاب: "السيرة النبوية عند الرواد المعاصرين"، وهو كتاب يترجم لأشهر مؤلفات السيرة في العصر الحديث، ويبيِّن أنه كان من أهم أغراض تأليف المعاصرين في السيرة الرد على المستشرقين، وقدَّم لهذا ببحثٍ وافٍ في بيان عور تناول المستشرقين لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- (ربما يعيبه الترحيب بكل ناقد للمستشرقين، وإن كان في حقيقته متأثرًا بهم، ولكن هذا الأمر لا يؤثر على جودة بحثه ككل، وبالذات في قضية نقد منهج المستشرقين).

وأسأل الله أن ييسر لي تلخيص هذه الفوائد في مقالة واحدة؛ بيد أننا نلخصها هنا في نقاط محددة:

- المصدر الأول لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- هو القرآن الكريم، وهنا قد يدعي مدعٍ: أن هذا هو كلام إبراهيم عيسى، ولكن ها هنا فارقان جوهريان:

الأول: أن إبراهيم عيسى يجوِّز تفسير القرآن بالرأي دون الرجوع إلى أسباب النزول، وإلى التفسير الأثري، وبالتالي فتقريبًا لا يمكن الجزم في هذا المنهج المعوج: أن أي آية من التي نزلت في بدر، وأُحُد، وصلح الحديبية، وغزوة الأحزاب، وخيانات اليهود؛ أنها تتعلق بهذه الوقائع. وقد رأينا كيف تلاعب "مفكرو تكوين!" بآية من أصرح الآيات، وهي قوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي ‌أَسْرَى ‌بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1).

الثاني: أن هناك وقائع سيرة جاءت في السنة، لم ينزل بشأنها قرآن، وإبراهيم عيسى لأنه يطعن في السنة عمومًا، فالطبيعي ألا يذكرها كمرجع للسيرة. 

- المصدر الثاني للسيرة هو ما صَحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما ورد في البخاري ومسلم، والسنن الأربعة: النسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وما ورد في المسانيد: كمسند أحمد، ومسند عبد الرزاق، وهي أحاديث كثيرة سجَّلت المواقف المؤثرة في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

نعم لا نرى فيها الترابط القصصي، ولكن لا يكاد يخرج عنه موقف مؤثر عقديًّا أو فقهيًّا، أو أخلاقيًّا بالذات أخلاق الحرب في الإسلام، وأحكام المعاهدات والصلح والعهود.

تنبيه: سبب عدم اكتمال النسيج القصصي للسيرة في كتب السنة أن العرب أمة ديوانها الشعر، والحفظ عندها هو وسيلتها الأساسية لحفظ أخبارها، وجاءت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فعلَّم أصحابه القرآن والسنة، وحفظوا عنه أقواله وأفعاله وتقريراته، وشرعت الكتابة معضدة للحفظ، وفي أول الأمر لم يكن مأذونا إلا في كتابة القرآن، وأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض من يُؤمَن عليه اختلاط القرآن بالحديث أن يكتب مثل عبد الله بن عمر بن العاص -رضي الله عنهما-، وكان هذا الإذن إيذانًا: أن الأمة متى أمنت من هذا الاختلاط فيمكنها أن تشرع في كتاب الحديث، وقد كان؛ فبعد جمع المصحف فتح المجال لأن تخرج كتابة الحديث من طور كتابة كل راوٍ لنفسه لكي يُحدّث من صحفه بعد ذلك، إلى الكتابة التي يراد بها الانتشار لدى العامة، وفي جمع الحديث وكتابته كان الاهتمام:

- بالأحاديث التي لها تعلق بالتفسير.

- والتي لها تعلق بالعقيدة.

- تلاها التي لها تعلق بالفقه.

وهذا فيما يتعلق بخروج الأحاديث من طور الكتابة الفردية للرواة إلى طور الكتب المجموعة المعنية بأحاديث جانب معين من جوانب الدين.

وبالتالي فُرّقت وقائع السيرة بين كل كتب السنة هذه، ولأن الرابط القصصي يبقى في الناس ولا يخشى عليه الضياع تأخرت العناية به بعض الشيء.

- ومن الجدير بالذكر: أن الشيخ محمد الخضري -رحمه الله- كتب كتابه: "نور اليقين في سيرة خير المرسلين" معتمدًا فقط على القرآن، وما ورد في دواوين السنة دون الحاجة الى المصادر الأخرى؛ بيد أنه استفاد فقط من ترتيب ابن هشام، فخرج كتابًا رائعًا كافيًا، وما زال يدرس في كثير من المعاهد العلمية حتى الآن.

- والمصدر الثالث: ما جمعه بعض التابعين المعنيين بالسير حيث إنه وجدت رغبة عند عدد من أفاضل التابعين في المدينة حيث كانت كثير من وقائع السيرة، وما لم يقع في المدينة فكان جزمًا يصل إلى المدينة مكان إقامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهم أبان بن عثمان بن عفان، وعروة بن الزبير بن العوام، والزهري، ووهب بن منبه، وآخرون، ومرويات هؤلاء تعتبر مصدرًا ثالثًا للسيرة النبوية بجانبها القصصي وتفاصيلها الدقيقة.

- يزعم البعض: أن مرويات هؤلاء قد انتقلت إلى ابن إسحاق، وبالتالي قد ضاعت، وهذا من الجهل أو الخداع، فهؤلاء جمعوا عن آبائهم وعمن أدركوا من الصحابة أخبار المغازي وحدثوا بها تابعي التابعين، ومِن ثَمَّ تفرقت أحاديتهم بحسب سير الرواة بها، فوجدت في الصحيحين، وكتب السنن، وبقي القدر الأكبر منها في المسانيد، وهذا كله لا علاقة لابن إسحاق به، ولا علاقة لها بسيرة ابن إسحاق وإن كان ابن إسحاق قد أخذ عنهم، لكنه لم ينفرد بالأخذ عنهم.

والجدير بالذكر: أنه وجدت بحوث معاصرة تتبعتْ مرويات واحد أو أكثر ممن سمّينا من التابعين في دواوين كتب السنة، فخرجت بكتاب سيرة قارب سيرة ابن هشام، ومن هذه البحوث دراسة الدكتوراة التي أعدها الشيخ عادل عبد الغفور حول مرويات عروة بن الزبير، بخصوص سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت بإشراف الدكتور ربيع المدخلي (لا أظن أننا نحتاج هنا إلى التأكيد على أن كلًّا يُؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).

- أما ابن إسحاق فسمت همته إلى تدوين كتاب ينقله عنه الرواة ككتاب (ينسخون نسخة منه كتابة، ثم يقرؤونه عليه أو يقرأه عليهم)، ومن هنا قيل: إنه أول كتاب في السيرة، وهذا الوصف صحيح بهذا المعنى الذي ذكرناه، ولكن من سوء فهم المستشرقين وسوء قصدهم؛ أنهم يعبِّرون عن هذا بأنه المصدر الوحيد لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الجواب عن شبهة ضعف ابن إسحاق في الحديث:

اختلف أهل العلم في ابن إسحاق بين مَن وثَّقه وبين من جَرَحه، ومن هنا وجد المستشرقون وعلى إثرهم كاتبي تكوين الفرصة السانحة للطعن عليه، ولكن هنا يدور سؤال أوَّلي لتكوين: هل تُقِرُّون بعلم مصطلح الحديث؟ وهل تقبلون ما قَبِلَه جهابذته، وترفضون ما رفضوه؟!

لا أظن أنهم يجرؤون أن يقولوا: نعم، وإلا ففيمَ الحرب على البخاري أمير المؤمنين في علم الحديث كما لقَّبته الأمة؟!

إذًا، فمِن المريب حقًّا: أن نجد فجأة استدلالًا بقواعد علم المصطلح لإسقاط ابن إسحاق، ومِن ثَمَّ إسقاط السيرة النبوية كلها!

ومع هذا، فما تذرعوا به مِن أن مَن اختلف فيه العلماء بين الجرح والتعديل، فالمقدم فيه الجرح مطلقًا ليس بصحيح؛ فربما جرح الجارحون الراوي بما لا يجرح؛ فقد جرحه هشام بن عروة بأنه يروي عن زوجته، فقال "متى لقيها ليروي عنها"؟ وهو أمر لا يعدو أن يكون شدة غيرة اعترت الرجل خشية أن يُظن امرأته تتساهل بلقاء الرواة مع أنها أكبر منه ومن ابن إسحاق، فلا شك أنه يحتمل أنه أخذ عنها قبل أن تتزوج.

وهذا يدل على أمور:

- أن في عصر الرواية الذهبي أدَّت المرأة دورها فيه.

- وأن الأمة لم تتعامل مع أحد على أنه معصوم، وقدّروا أن تأخذ فلان غيرة مفرطة على زوجته، أو غيرة من أقرانه.

والعجيب حقًّا: أن ينحاز إبراهيم عيسى، وهو من يتحدث عن تحرير المرأة (المنفلت إلى حدِّ زعمه أن جداتنا كن ترتدين المايوهات في الشواطئ!) إلى الجانب الذي يبدو أنه منطلق من غيرة مفرطة (فوق غيرة السلفيين التي يراها هو هوسًا!).

وأما طعن "مالك": فعلى جلالة الإمام مالك فقد وقف رجال الحديث في هذا الجرح الذي أمامه توثيق مفصل، ووجدوا أن الوشاة قد وشوا بين الرجلين فأسقطوا جرح مالك لابن إسحاق.

ومرة أخرى نرى الأمة تتعامل في كل موقف بما يستحقه دون تقديس لأحد.

وأما اتهامه بالتدليس فلا يسقطه لا هو ولا غيره، وإنما يقتضي التحوط، وهذا التحوط في روايات الأحكام، وأما الأخبار فتدليس ابن إسحاق (وكانت صورته دمج مرويات بعض الرواة على بعضهم بإسناد واحد مع الاختلاف بينهم في السياق)، فهو غير قادح في مرويات السير، أو إن شئنا الدقة لقلنا: الجانب القصصي في السير.

ولذلك قال الذهبي في بيان حال ابن إسحاق: "والذي تقرر عليه العمل: أن ابن إسحاق إليه المرجع في المغازي والأيام النبوية، مع أنه يشذ بأشياء، وأنه ليس بحجة في الحلال والحرام، نعم، ولا بالواهي، بل يستشهد به. وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيها فإنه يعد منكرًا".

وقد نقله الشوربجي في مقالته واندهش من حكم الذهبي، ولو أنه كان ينظر إلى الأمور بعين طالب العلم؛ لعلم أن كلام الذهبي موزون بموازين الذهب، بل أدق، والحمد لله رب العالمين.

يبقى طعن انفرد به إبراهيم عيسى، وهو: التشكيك في هل أسلم يسار جد محمد بن إسحق أم لا؟ مع الجزم بإسلام أبيه إسحاق.

ولا أدري: هل هذا إبراهيم عيسى المتغزل في البقرة وعابديها وهم على شركهم يستنكر على رجل أن يصير إماما في الدين؛ لأن جده كان نصرانيًّا، ولا يعلم: هل أسلم أم لا؟ (أظنه بهذا يستحق الإقالة من تكوين؛ فهو مخالف لما يدعون إليه، ولكن الكل يستباح في سبيل نصرة مذاهب المستشرقين!).

سيرة بن هشام (النسخة الأكثر تنقيحًا من سيرة ابن إسحاق):

- ثم جاء بعده ابن هشام والذي وصلت له السيرة من طريق البكائي تلميذ ابن إسحاق (وما يقال في ابن إسحاق يقال مثله في البكائي)، وقام ابن هشام بدراسة نقدية لسيرة ابن إسحاق، فاستبعد منها بعض الأشعار التي نسبها ابن إسحاق لأهل الجاهلية، ونقَّح بعض أوهامه، ومِن ثَمَّ صارت سيرة ابن هشام مقدَّمة جدًّا عند أهل العلم على كتاب ابن إسحاق نفسه، ولعل هذا أثَّر على عدد المخطوطات، حتى جاء عصرٌ فانقرضت فيه مخطوطات ابن إسحاق، ولكن مخطوطات سيرة ابن هشام من الكثرة بحيث يوجد منها في مكتبات مصر وحدها العشرات من النسخ، وفي مكتبات العالم الإسلامي المئات.

- ومن المهم: بيان أن سيرة ابن إسحاق بقيت نسخها موجودة حتى قرأها ابن جرير الطبري، وابن عبد البر، وضمنها كتبه، وكذلك الذهبي، وابن كثير، وذكر الشيخ محمد حميد الله أنه علم أنها كانت موجودة في مكتبات الهند حتى قبيل الاحتلال الإنجليزي لها، وبالتالي فالسيرة ثبتت عن طريق مرويات مصادر ابن إسحاق: كعروة بن الزبير، وأبان بن عثمان، فمروياتهم موجودة في دواوين السنة. 

ثم من جهة ابن هشام "وهي النسخة المنقحة من سيرة ابن إسحاق"؛ حيث تصرف ابن هشام في سيرة ابن إسحاق بالحذف حينًا وبالزيادة حينًا، ولكن ابن هشام ضَمَّ سنده إلى ابن إسحاق فيما أثبته من سيرة ابن إسحاق، وساق بسنده المستقل ما زاده، فصارت سيرة ابن هشام مرجعًا مستقلًا مسندًا.

ولو أن تساؤلهم كان حول ماذا عسى أن يكون قد حذفه ابن هشام؟ فهذا سؤال من باب الرفاهية؛ لا سيما وقد بيَّن ابن هشام أنه حذف ما لا تعلُّق له بالسيرة، وحذف اشياء يجمل عدم ذكرها، ولكن تبقى في النهاية سيرة ابن هشام مرجعًا مسندًا لا يُحتاج في تحقيقه إلى شيء من سيرة ابن إسحاق، وأنه هو المرجع الذي أخذ منه مَن جاء بعده.

ثم من أجيال من العلماء اطلعوا على سيرة ابن إسحاق ذاتها (ثم وُجِدت قطع من مخطوطات ابن إسحاق، حققها الشيخ محمد حميد الله وطبعت، ولم يجدوا في الأجزاء التي وجدت فروقات تذكر عن سيرة ابن هشام).

- ادعى إبراهيم عيسى كذبًا أو جهلًا: أن سيرة ابن هشام لا يوجد منها سوى مخطوطتين، وأننا في مصر لم نرَ هذه المخطوطات، فحتى لو وجدت نسخة خطية وحيدة في مكتبة ما، يذهب المحققون فينسخونها ويطبعون عليها. وكل هذا ونحن نتحدث عن كتب موقعها في أدبيات السيرة إكمال الرابط القصصي، ولم نرَ من تكوين كلامًا على الأناجيل، وكل نسخها الأصلية مفقود والموجود مترجم عنها (وليس منقحًا منها مثلًا، كحال سيرة ابن هشام مع سيرة ابن إسحاق)، والنسخة اليونانية التي اعتبرت في النهاية أصلية أيضًا عدد نسخها الخطية محدود كذلك.

الترتيب المعاصر لكثير من كتب السيرة نقح الترتيب وراعى جميع المصادر:

- من أجل هذا نشأت رغبة لدى كثير من المعاصرين في إعادة كتابة السيرة؛ على أن تكون الصدارة للأدلة القرآنية، ثم لِمَا وَرَد في دواوين السنة المعتمدة، ثم إكمال التفاصيل القصصية من سيرة ابن هشام، مع تعضيد هذا بالمصادر الأخرى، وهي تشمل كتب الشمائل المحمدية، وكتب التاريخ العامة، وكتب تواريخ البلدان.

ومن أجود المشاريع في هذا الباب: كتاب: "الرحيق المختوم" للمباركفوري، وهو كتاب منذ أُلِّف وهو المعتمد في التدريس في كثير من المعاهد الرسمية، والتابعة للجمعيات الدعوية، ويوجد مثله الكثير من الكتب.

ويجب أن نعلم أن معركة الدفاع عن السيرة النبوية لا تقل أهمية عن الدفاع عن السنة النبوية، لكون السيرة بسياقها القصصي وترابط أحداثها تبقى في وجدان الكبير والصغير، ولذلك نجد أن كثيرًا من الأئمة الأعلام في كثير من ميادين العلم حرصوا على أن تكون لهم إسهاماتهم في جانب السيرة، فكتب فيها الطبري، وابن عبد البر، والذهبي، وابن كثير، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، وغيرهم كثير عبر التاريخ.

نسأل الله أن يرد كيد الطاعنين إلى نحورهم، وأن يمسكنا بدينه حتى نلقاه عليه.