الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 27 مايو 2024 - 19 ذو القعدة 1445هـ

مؤسسة تكوين الفكر العربي (2) تكوين على خطى طه حسين أم خطى المستشرقين؟

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد سبق وأن أشرنا إلى أن مؤسسة "تكوين الفكر العربي" قد أقامت حفلها السنوي الأول أو بالأحرى حفل تدشينها وخصصته لتكريم طه حسين -رحمه الله- تحت عنوان: "خمسون عامًا على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟".

وطه حسين كان صاحب الصدمة الكبرى في تاريخ المسلمين المعاصر في كتابه: "في الشعر الجاهلي"، والتي تمثلت في أن يجرؤ رجل "فضلًا عن أن يكون أزهري المنشأ فيكتب تشكيكًا في القرآن ككل، أو في شيء ذكر في القرآن".

وطه حسين صاحب دعوة من أصرح الدعوات للتبعية للغرب في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر"، اضطر لكي يروج لها أن يزور التاريخ، فيدعي أن مصر عاشت تاريخها منبتة الصلة عن الشام والجزيرة العربية، وأنها كانت وثيقة الصلة باليونان، مدعيًا أن طريق التقدم لا يكون إلا بالارتماء في الثقافة الغربية الحديثة.

وطه حسين هو صاحب الدعوة إلى العبث باللغة العربية بصور متعددة، حتى إنه كان لا يعتبر الأديب أديبًا إلا إذا درس الأدب العربي على أيدي المستشرقين باعتبارهم أصحاب منهج علمي في دراسة الأدب العربي.

ويطول بنا المقام لو أردنا أن نتتبع سقطات وانحرافات طه حسين؛ إلا أنه من الثابت أنه تراجع في نقاط جوهرية من انحرافاته، وهو تراجع عن بعض وليس كل القضايا، ثم إنه في كثير من الأحيان انتقل من نقطة موغلة في السوء إلى نقطة لا تخلو منه ولكنها أهون شرًّا.

وهذا ما نتناوله في سلسلة مقالات بعنوان: "تراجعات طه حسين.. حقيقتها وإلى أي مدى وصلت والدروس المستفادة"، ولكن من الواضح أن "مؤسسة تكوين" يطالبون بإحياء فكر طه حسين في طبعته الأسوأ، وبالتالي يحق لنا أن نسألهم: أي طه حسين تريدون؟

هل هو طه حسين "في الشعر الجاهلي"؟ أم طه حسين "في الأدب الجاهلي"؟

ومن المعلوم أن الثاني كتبه ليتفادى النقاط التي كفَّره الأزهر بسببها في الأول، وبغض النظر عن هل يعتبر الثاني مقبولًا إسلاميًّا أم لا، فإن الكارثة أنهم يريدون أن يعودوا إلى الأول الذي انتفض الأزهر مكفِّرًا من يقول بهذا الكلام.

ولنا أن نسألهم: هل يريدون "طه حسين" الداعية إلى العبث باللغة وتهجينها باليونانية وباللهجات العامية واستعمال العامية؟ أم الذي يقرر أهمية الفصحى وضرورة الالتزام بها؟

وسوف تتضح لك الإجابة إذا تأملت الأمور التالية:

الأول: في مجلس أمناء مؤسسة تكوين "فراس سواح"، وهو ممن يزعم أن القرآن فيه أساطير، وقد قدمنا تكفير الأزهر لمن قال بهذا.

وللتوضيح: هم يدعون أنها وحي من عند الله، وليس أن النبي ? افتراها، ولكن يقولون: إن القرآن كلام أدبي والأدب تستعمل فيه الأساطير، فلا مانع من أن ينزل الوحي بها! لا سيما أن الأساطير كانت شائعة زمن الوحي.

وهو اعتذار سمج؛ فلا يخرج قولهم عن كونه وصف لله بأنه -تعالى- يخبرنا عن نبأ كذا وكذا، وهم يقولون: إن هذا النبأ كذب!

ومن هذا المنطلق كان تشكيك طه حسين في وجود إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- رغم ذكرهما في القرآن؛ ذكر هذا في كتاب: "في الشعر الجاهلي"، ثم حذفه من كتاب: "في الأدب الجاهلي".

الثاني: أن إسلام البحيري لما خرج مع الإعلامي عمرو أديب ليدافع عن مؤسسته، قال: إن كل المثقفين اتهموا بالإلحاد، وضرب مثالًا بـ"طه حسين" في كتابه: "في الشعر الجاهلي".

الثالث: أن أكبر رمزين في تلك المؤسسة تناولا حديثا يفهم منه أنهما وهما يحتفلان بمرور 50 عامًا على وفاة طه حسين يرون أنهما نهلا من المستشرقين كما نهل، وبالتالي فقد اعتبرا نفسيهما أهم منه.

أعلم أنهما اعتذرا بأن هذا كان مزاحًا، ولكن أعلم أن هذه المدارس تجيز أن تعيد تفسير النص بأدواتك أنت، ويرون أن النص ملك للمتلقي لا للمتكلم، وهو أمر عبثي لا يقدر أحد أن يقرره في أي نصوص لها صفة الإلزام.

ولكن الغرب اضطر أن يفعل هذا في نصوص كتبه التي يقدسها، وعاملها كما يعامل الأساطير، وكان هذا بالنسبة له خير من أن يكذبها، ثم علَّموا من ارتضى أن يجعلهم شيوخه أن يفعل هذا بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

ونحن لن نفعل معهم ما فعلوه مع القرآن، ولن نقول لهم أنتم قلتم كلامًا ونحن نفسره، ولكننا في ذات الوقت سنفسر الكلام بما ظهر منه، ونحن نعلم أن الأصل الجد لا المزاح، وأن المزاح إنما يراد بقرائن قولية وحالية، ولما كان السؤال جادًّا من قبل يوسف زيدان لزميله فراس سواح "هل أنت أهم أم طه حسين؟" (والفيديو موجود لا يوجد أي لغة جسد تقول: إن هذا كان مزاحًا)، ثم كانت الإجابة أكثر جدية: "أنا وأنت أهم من طه حسين"؛ فنحن لن نقبل منهما هذا التأويل السمج.

وتطلُّعهم طموح طبيعي لأي أحد يقف في طابور النقل عن المستشرقين، وترجمة سمومهم والدفاع عنها؛ حتى إن إسلام بحيري قبل أشهر قليلة كان غاضبًا من ترتيبه في نادي "مترجمي كلام المستشرقين"، وحزين جدًّا أن شخصًا مثل يوسف زيدان يعد متقدمًا عليه مع أنه متورط في مدح شيخ الإسلام ابن تيمية!

وأما طه حسين فقد وصل إلى أقصى درجة، ولعله ذاق مرارتها، أو لعله ذاق حلاوة القرآن لما أصغى إليه في إذاعة القرآن، فمات وهو على ما يمكن أن نصفه بدايات طريق العودة؛ فلو أردتم أن تقتفوا أثره فطريق العودة الآن أيسر، وبحوث الرد على المستشرقين وتفنيد شبهاتهم حول السنة النبوية من الكثرة والوفرة بمكان، وبيان محاسن الشريعة "بل وعلى ألسنة بعض الكفار كذلك" كثيرة -بفضل الله-.

وأما إذا أبيتم... فأعلنوها صراحة: أنتم مؤسسة "ترجمة أفكار المستشرقين!".

ودعوني مرة أخرى أستعمل أسلوبكم في افتراض التحليلات واقعًا، ولن أشتط بعيدًا -كما تفعلون-، وسأقدِّم تحليلات لبعض الأمور الغامضة، كلها ستحل لو وصفنا مركزكم أنه مركز "ترجمة أفكار المستشرقين".

1- من صاحب الفكرة؟

إسلام بحيري -الذي كان منذ أشهر قليلة في تلاسن مع يوسف زيدان- يقول: إن المشاورات مستمرة منذ أربع سنوات! ولم يذكر لنا مثلًا من صاحب الفكرة الأولى؟

وماذا لو افترضنا أنه مركز استشراقي ما؟ تبدو فكرة منطقية وسلسة، وأكيد أن هذا المركز يستطيع أن يجمع بعض المختلفين، أو ربما يكون اختلافهم أصلًا راجع لمن يكون صاحب الحظوة في هذه الخطوة.

هل من تفسير آخر؟

2- من الممول؟

إسلام بحيري اعترف أنهم رجال أعمال مصريين وغير مصريين (من الأمور النادرة أن يوجد من يصرح بمخالفته للقانون صراحة وعلى الهواء! حيث يلزم المؤسسات كي تقبل تمويلًا من أجانب أن تحصل على موافقات وإجراءات كثيرة من هذا القبيل)، ورجال الأعمال هؤلاء إما أنهم مؤمنون بأفكار المستشرقين فموَّلوا من يترجم كتبهم، أو سيكون لهم منفعة ما مع المستشرقين.

ولا يوجد تفسير آخر لمن يريد أن يمول مجموعة هادمة لثوابت الأمة، يشهد بذلك الأفراد والمؤسسات؛ هذا حل لغز الممول.

3- لغز زجاجة البيرة:

كان كلام كل رموز مؤسسة "ترجمة أفكار المستشرقين" أنه لعلها تكون لسائح تواجد في ذات المطعم في ذات الوقت (طبعًا كان يمكن أن يكون تأويلًا قابلًا للتمرير لو أنهم كانوا كما يفعل الأصدقاء فحجزوا منضدتين متجاورتين في قاعة الطعام، وليس قاعة بأكملها!).

وإسلام البحيري لعله لاحظ ضعف هذا الجواب، فقال: لعلها لأحد الحاضرين للاحتفالية، فيكون أقرب احتمال أنها لصحفي من الجهة الاستشراقية التي افترضناها، وعنده الخمر لا بأس بها.

4- حللنا لغز من شربها، يتبقى لغز من تعمد وضعها في الكادر؟

(ويصعب أن نترك هذا للصدفة في شيء تكلف الملايين)، فسيكون الأقرب أنه مصور من المنظمة الاستشراقية، وكما عندنا "لا بد من العيش والملح" فإن المائدة لا تكون مائدة عند المستشرقين بدون بيرة، وحتى لا تغضب الجهة المانحة صُوَّرت لهم زجاجة البيرة.

وأما أن هذا سيغضب الجمهور فهي مفسدة يمكن احتمالها؛ لا سيما وأن البحيري أغضب الجمهور يوم سب البخاري، وزيدان أغضب الجمهور يوم سب صلاح الدين، وفاطمة ناعوت أغضبت الجمهور يوم سخرت من الأضحية؛ فالجمهور عند هؤلاء مرتبة ثانية أو ثالثة، والمهم أن تكون المؤسسة الاستشراقية راضية.

5- تبقى قضية أن يوسف زيدان قال: "أنا لا أشرب البيرة؛ لأنها بتوجع البطن!":

وهل يدل هذا أنها جرَّبها من قبل؟ حتى هذه ممكن نستعين بمبعوثي المنظمة الاستشراقية لتفسيرها.

ودعنا نفترض أن يكونَ شخص ماكرٌ منهم قال: أتدرون أننا نشرب البيرة، ونحن نحسدكم على شريعتكم التي حرمت عليكم الخبائث؟

وغالب الظن أنه لو حدث هذا، أنه يريد أن يختبر مَن سيأخذه الحنين إلى دينه فيخرج محدثًا بهذا الحوار، ولكنهم كلهم كانوا من النباهة بمكان أنه إذا ذَكَر مستشرق محاسن الشريعة، فالواجب عليهم أن يكتموا هذا ولا ينشروه، إلى أن جاءت لقطة الصورة فوجد يوسف زيدان أن هذه المعلومة جيدة يدافع بها عن نفسه.

مرة أخرى أقول: هذا افتراض، لكن يبدو افتراضًا سحريًّا يحل كل الألغاز، والقوم يفسرون الوحي بمثل هذه الطرق الافتراضية، فمن باب أولى جزمًا أنهم سيعطوننا الحق في تفسير ألغاز مؤسساتهم بطريقتهم.