كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
التغريب قبل طه حسين:
توجهت الكثير من سهام التغريب إلى الأمة على أيدي المستشرقين، ثم بدأ التغريب يتسلل تدريجيًّا عن طريق من هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وكانت الصدمة في أول الأمر في رفاعة الطهطاوي الذي أرسله "محمد علي" واعظًا للبعثة التي أرسلها إلى أوروبا، فعاد منها مولعًا بالحضارة الغربية متغنيًا بمدينة النور باريس؛ بيد أن رفاعة الطهطاوي ذاته كان حريصًا في كثير من الأحيان أن يضيف جملة اعتراضية خافتة من حيث عدد الألفاظ، ومن حيث معانيها، ومن حيث حرارتها: "أن هذا الإعجاب لا يتضمن النصيحة للمسلمين بأن يسلكوا سبيل الفرنجة، فنحن مسلمون، لدينا أخلاقنا وعاداتنا".
(وهذه العبارات الخافتة لم تمنع التغريبيين من اعتبار كتبه دستورًا للتغريب حتى يومنا هذا! ومهما حاولنا إبراز هذه العبارات من باب الاحتجاج على القوم أنكم خالفتم نصائح مَن تنتسبون إليهم، ولكن يا للأسف بقيت أثر العبارات باهتا كما خرجت يوم خرجت من صاحبها).
إلا أنه في النهاية يبقى "الطهطاوي" بعيدًا عن استهداف الشريعة الإسلامية استهدافًا مباشرًا؛ فضلًا عن استهداف السنة، وبقيت هذه الأبواب لا يجرؤ عليها إلا المستشرقون. وأما الهجوم على القرآن فكان من نصيب المستشرقين شديدي التعصب، غير المبالين بما يظهر في كلامهم من تعصب، ومن مجافاة لأبسط قواعد العقل والمنطق.
طه حسين وفتح باب التغريب على مصراعيه:
لا خلاف أن طه حسين يمثل الحلقة الأكثر سوءًا في قيادة التغريب من الداخل؛ ولذلك قاومته الأمة في حياته وبعد وفاته، وقد أحسن الأستاذ "محمود مهدي الإستانبولي" في جمع هذه الردود، واختصار ما يحتاج إلى الاختصار منها، ليكون مرجعًا واحدًا في السموم التي ألقاها طه حسين، وكيف قاومتها الأمة من تيارات مختلفة؛ من السلفيين وغيرهم، ومن الأزهر ومن خارجه، بل وبعض رموز المدرسة الوطنية، وذلك في كتاب: "طه حسين في ميزان العلماء والأدباء".
ولا شك أن أسوأ ما كتب طه حسين كما قال الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله- هو كتاب: "في الشعر الجاهلي" المنشور سنة 1926، وكتاب: "مستقبل الثقافة في مصر" المنشور سنة 1938، ففي الأول ادعى ضياع الشعر الجاهلي، مما رآه العلماء أنه طعن في مصدر لغوي مهم جدًّا في تفسير القرآن في المواضع التي لم يأتِ فيها تفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الصحابة أو التابعين، ولكنه تضمن فوق هذا كفرًا صريحًا، وكان من أقبح ما قال فيه: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب، ونحن مضطرون أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى".
ثم إن طه حسين بعد موجة الهجوم عليه سحب الكتاب وأعاد طبعه باسم جديد، وهو: "في الأدب الجاهلي" مع حذف تلك العبارة الكفرية وتغييرات طفيفة أخرى.
إن هذا المسلك في إعادة طرح كتاب جديد جعل كثيرًا من الباحثين إلى يومنا هذا لا يعتبرون أن طه حسين قد تراجع عن هذا الباطل، فالأصل كان أن يطرح طبعة جديدة من ذات الكتاب بذات الاسم، وأن تتضمن الطبعة الجديدة اعتذارًا واضحًا، وتبرؤًا صريحًا مما قال.
وأما سحب الكتاب وإعادة طرح كتاب جديد؛ فقد صنفه معظم المفكرين على أنه مجرد انحناء للموجة، ولهم الحق في هذا، أو -على الأقل- يقال: إن ما فعله لم يحقق شروط توبة الداعي إلى ضلال؛ لأن من شروطها التبيين: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 160).
ثم إن طه حسين كتب في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كتبًا عدَّها البعض امتدادًا للتراجع، وعدها الأكثرون امتدادًا للهدم، وهي: "على هامش السيرة"، و"الشيخان"، و"الفتنة الكبرى"، ولك أن تتخيل أن كاتبًا في السيرة يذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يصلي عليه! ولكنه عدل عن ذلك في الجزء الثالث من كتاب: "على هامش السيرة".
وحتى الذين عدوا هذه الكتب تراجعًا أو رجوعًا سوف يُصدَمون بأنه في عام 1938 قد نشر كتاب: "مستقبل الثقافة في مصر"، وهو كتاب في تزييف للتاريخ والوعي معًا؛ فأما التاريخ فزعم أن روابط مصر مع اليونانيين عبر التاريخ أوثق من روابطها مع الشام والجزيرة العربية حتى بعد أن نوَّرها الله بالإسلام.
وأما الوعي: فهو يرى أن الطريق الوحيد للتقدم هو تغريب الثقافة والتعليم والسياسة، وأخذ هذا الكتاب هو الآخر حظه من الهجوم والنقد.
ثم إن طه حسين قد ذهب للحج في عام 1955 وحكى مرافقه في هذه الرحلة مواقف من تأثره برحلة الحج، وحوارات اعتذر فيها لبعض محاوريه عن كتاباته التغريبية.
وقد حكى الدكتور "محمد الدسوقي" عددًا من الحوارات التي كان هو أحد أطرافها، أو شاهدًا عليها في الفترة من 1964 إلى وفاته عام 1973، تضمنت ترديدًا لبعض الأباطيل التي تعتبر امتدادًا لحياته الفكرية، مثل: إنكار رحلة المعراج، ولكنها تضمنت أيضًا كلامًا في تعظيم القرآن، والشهادة بأنه وحي، وأن ما أثبته يجب التسليم له (وهو أمر بديهي أن يقوله كل مسلم، ولكنه بالنسبة لطه حسين قد يكون أمرًا جديرًا بالتوقف عنده).
ثم جاء الدكتور "محمد عمارة" في كتاب: "طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام"، فجرد بعض المقالات الجيدة لطه حسين -بعضها يتعلق بقضايا سبق وأن قال فيها بأباطيل- من تعظيمه للقرآن، ومن مطالبته أن تكون الثقافة عربية خالصة، مما جعل د. عمارة يفسر هذا بأن طه حسين رجع تدريجيًّا وتحسَّن فكره، فكانت العشرينيات هي أسوأ فترات حياته، ثم تحسن نسبيًّا من الثلاثينيات إلى الخمسينيات ثم تحسن كليًّا من الخمسينيات إلى الستينيات، وهي فكرة كنت منحازًا إليها -عاطفيًّا على الأقل كما سأعود لمناقشة هذا لاحقًا-.
ولكن بعد الاطلاع على كتاب الدكتور "محمود دسوقي" وهو يحكي آخر فترات طه حسين، ظهر لي أن طه حسين في الفترة من 1964 إلى 1973 التي غطاها كتاب محمد الدسوقي، كان بالطبع في أفضل فترات حياته في تسليمه للقرآن وانتمائه للثقافة الإسلامية عمومًا، ولكنه بقيت عنده شكوك وأباطيل، بعضها متعلق بكونه ما زال متعلقًا بأساتذته من المستشرقين، مستشعرًا بالامتنان تجاههم وتجاه زوجته، وبالتالي نجد منه جدالًا في شأن لزوم اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- على العالمين بعد بعثته -صلى الله عليه وسلم-، كما أن لديه شبهات شديدة متعلقة بالسنة وثبوتها، وبفضل الصحابة وعدالتهم، وهذه من القضايا الجسيمة، والانحرافات فيها تمثل أباطيل كثيرة.
وبالرجوع إلى المقالات التي ذكرها الدكتور عمارة يمكننا أن نقول: إن الجوانب التي تحسَّن فيها طه حسين يمكن رصد بدايات تحسنها بداية من 1940 إلى بعد نشر كتاب "مستقبل الثقافة في" مصر بعامين.
ويستثنى من هذا مقال طويل في مدح دعوة شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" نشره سنة 1933، والتفسير الوحيد لي في هذا أن العقلانيين بلا شك كان يسوؤهم ما تفعله الصوفية، ويسوؤهم أكثر أن هذا كان سبة حضارية أمام الغرب، ولم يكن يجرؤ أحد على نقد الصوفية صراحة، وبالتالي فقد تترس معظم العقلانيين في هذه المرحلة مثل الشيخ محمد عبده وغيره بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وعلى هذا المنوال سار طه حسين.
وبعد هذا الاستعراض السريع لحياة طه حسين الفكرية ننتقل إلى مناقشة أكثر عمومية للقضية عبر النقاط التالية:
س: ماذا عن الأقوال التي بعضها صواب وبعضها خطأ، بيد أنها أقل شرًّا من أقوال سابقة على التوبة؟
والجواب: أنه كان لهذا السؤال قيمة لو كان الرجل حيًّا، فكان يجب علينا حينئذٍ أن نواجهه بأن من شروط توبة من دعا إلى باطل أن يبيِّن، فلا بد أن ينشر الحق بنفس وتيرة نشره للباطل، بل أكثر: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 160)، وأما بعد موت الرجل فلا فائدة من طرح هذه السؤال.
س: هل نروي التاريخ على ما نحب أم على ما كان؟ وما الذي نحبه في هذا الباب؟
أما أبواب توبة العصاة والمبتدعة؛ فالذي يجب أن نحبه أن يكونوا قد تابوا ورجعوا، كما كان حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- وحبه لإيمان الناس حتى قال له ربه -عز وجل-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف: 6)، وكما قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لابنه: "وددت لو أن هؤلاء القوم أطاعوا ربهم ولو أن جسمي قد قرض بالمقاريض".
على أن الأصل في التاريخ أن نحقق مروياته لنقرر ما حدث بالفعل.
ولكننا وجدنا من شيخ الإسلام ابن تيمية تنازلًا عن التحقيق التاريخي الدقيق لصالح قبول ما يقال من حكايات رجوع المبتدعة عن بدعتهم، أو الاعتذار عنهم بأنهم لم يقصدوها، كما اعتذر عن كثير من الصوفية.
والمهم في هذا الباب: أنه حتى ولو كان هناك إجماع على أن أحدًا رجع من البدعة إلى السنة؛ فهذا لا ينبغي أن يعتبر مسوغَ مرور للتساهل مع كتبه التي تنشر البدعة؛ ولذلك لما قيل لبعض العلماء في شأن توبة الزمخشري قال: "إن تاب فما تاب كشَّافه"؛ يعنى من اعتقد توبة أحد من جريمة، فواجبه علينا أن نساعده في منع نسبتها إليه وانتشارها عنه؛ وذلك لأن الكثيرين إن ذكرت له انحرافات أحد المبتدعة؛ قال: إنها مكذوبة عليه، أو أنه تراجع عنها، أو...، ولو بحثنا الأمر فوجدنا أدلة تاريخية على هذا أو حتى تغاضينا عن البحث التاريخي وقبلنا الدعوَى على عواهنها؛ سيبقى أنه في كل الأحوال الواجب الرد على ما خلفه من آثار بدعية.
وأما أن يقرر رجوعه أو أن يتبرأ من كلامٍ له بدعوى أنه مكذوب عليه، ومِن ثَمَّ يطالبون بنشر جميع تراثه؛ فهذا نوع من الخداع الساذج لا يفعله إلا من يستخف بعقل من أمامه.
وفي النهاية يبقى أن بعض من يرجع فإنه أحيانًا يكون في موقع المخلّط الذي ما زال يعلق في قلبه وعقله الكثير من شوائب الماضي، والبعض ينتفض ويصحح ويصبح إمامًا في السنة، وبالتالي فمن نسب له تراجع؛ فليعامل بحاله الجديدة على ما هي عليه.
ويبقى أنه في كثير من الأحيان يكون بيان تراجع رموز الفكر المنحرف بابًا لإنقاذ كثير من المنبهرين بهم وبما خلع عليهم من ألقاب، وبالتالي يجمل إبراز هذا الجانب.
والخلاصة:
إن دعاة التغريب في زماننا لا عذر لهم في اقتفاء آثار طه حسين في التغريب؛ لأنه من قلَّد غيره في الباطل مع وضوح الحق لا ينفعه الاعتذار بالتقليد، ولأن متبوعهم مات يوم مات وهو في طريق العودة من مستنقع التغريب الآسن، بينما هم ما زالوا قابعين هناك تقليدًا له.
وما زال للحديث بقية.
نصحني كثير من مشايخي وإخواني: أن كثيرًا من القُرَّاء قد لا يكونوا قد قرأوا عن طه حسين بشكل وافٍ، فمن الخطورة أن يكون أول ما يطرق مسامع بعضهم دفاعٌ ولو كان جزئيًّا أو محدودًا، وموجهًا بصفة أساسية لمن يقتدون به في أسوأ فترات حياته.
وعلى الرغم من هذا فثمة مخاوف من أن يضعِف هذا روح الممانعة للتغريب والكتب المنظرة له، ومن ثم سأعتبر هذه المقالة هي الأولى في سلسلة نستعرض فيها ما أجملناه من الرد على كتابات طه حسين ثم إثبات المواطن التي ثبت لنا فيها حدوث تحسن عنده، والمواطن التي بقي فيها على انحرافه.
ونسأل الله أن يهدينا إلى ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.