الأسبوع الثاني من الطوفان
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلم تتوقف الضربات الإسرائيلية الجوية المكثفة للأسبوع الثاني على التوالي ضد سكان قطاع غزة في الشمال والجنوب مما أدى إلى سقوط آلاف أخرى من المدنيين شهداء وجرحى، وقد صرح وزير الجيش الإسرائيلي أمام لجنة الشئون الخارجية والدفاع بالكنيست أن هناك خططًا من ثلاث مراحل للاجتياح البري لغزة المرتقب، ستبدأ بغارات جوية ومناورات برية، يتبعها إلحاق الهزيمة بجيوب المقاومة لدى حركة حماس وتدمير قدراتها العسكرية، ثم في النهاية إنشاء واقع أمني جديد في قطاع غزة، وكان الجيش الإسرائيلي قد حشد 360 ألف من جنود الاحتياط لتعزيز عدد الجيش الإسرائيلي البالغ 170 ألف جندي، مع حشد ألف دبابة وقوة من الدفاع المدني قوامها 20 ألف فرد.
وكان الجدل داخل المجتمع الإسرائيلي مستمرًا حول صدمة عملية طوفان الأقصى وتداعياتها؛ خاصة وقد صرح رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية للإذاعة العبرية بفشل المخابرات الإسرائيلية في الحصول على إنذار مبكر لما قامت به حماس، بينما حاول (بائير لابيد) زعيم المعارضة في إسرائيل التظاهر بوجود رؤية واحدة داخل إسرائيل حول الوقف في مواجهة حماس قائلًا: (سنكون موحدين حتى النصر الذي يعني سحق حركة حماس بشكل كامل).
وبعد أسبوع من القصف المكثف الذي أودى بحياة الآلاف من المدنيين الفلسطينيين -خاصة من النساء والأطفال وكبار السن- مع الحصار الشديد، ومنع دخول الماء والغذاء، والوقود والكهرباء إلى كامل قطاع غزة؛ صدر تقرير من منظمة الصحة العالمية أكد أن نقص المياه والكهرباء والغذاء والوقود في قطاع غزة سيتحول إلى كارثة في غضون 24 ساعة، بينما أكد بدوره رئيس البعثة الإقليمية للصليب الأحمر في المنطقة: أن المأساة التي نراها في غزة لم يُرَ مثلها من قبل، ولا يمكن تحملها.
ومع ازدياد الأوضاع المعيشية في غزة صعوبة بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض عليها، قال مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي: إنه يجب منح حق الوصول للمساعدات الإنسانية للأمم المتحدة دون عوائق إلى غزة، مؤكدًا أن المعاناة الإنسانية لا يمكن أن تكون ورقة مساومة، وقد قابل (نتن ياهو) رئيس الوزراء الإسرائيلي تلك المطالب وغيرها بقوله: إنه لا مساعدات إنسانية، ولا وقف لإطلاق النار في غزة.
أطلقت كتائب القسام سراح رهينتين أمريكيتين (أم وابنتها) كانتا محتجزتين لديها في قطاع غزة استجابة لجهود قطرية لدواع إنسانية؛ هذا في الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي (بايدن) يزور إسرائيل ويعلن دعمه اللا محدود لإسرائيل، حيث رحبت الإدارة الأمريكية بالعملية العسكرية البرية المرتقبة ضد قطاع غزة، وأعلنت عن تقديم كل المساعدات العسكرية المطلوبة لإسرائيل، مع التعهد بحشد الرأي العام الأمريكي والدولي خلف إسرائيل، وتبرير اجتياحها البري المتوقع لقطاع غزة، كما أعلنت عن تأييدها التام لإسرائيل في سعيها للقضاء على حركة حماس، حيث شارك الرئيس الأمريكي خلال زيارته لإسرائيل بالحضور في اجتماع مجلس وزراء الحرب الإسرائيلية (حكومة الحرب الإسرائيلية) للاطلاع على الخطط العسكرية الإسرائيلية لتنفيذ الهجوم البري وتدمير البنية التحتية لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية، واستهداف قادتها في شمال غزة.
وقد توقع الخبراء العسكريون أن يستغرق ذلك الأمر عدة شهور قد تصل إلى 18 شهرًا، وقد ناقش الرئيس الأمريكي مع مجلس وزراء الحرب الإسرائيلية ضرورة إرساء فترة انتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة في غزة، مع التأكيد على الحيلولة دون اتساع الحرب مع أطراف أخرى في المنطقة.
وقد أكد (بايدن) أن واشنطن قد حذرت إيران وحزب الله في لبنان من شنِّ هجمات عسكرية ضد إسرائيل لعرقلة تقدمها في غزة، وأيضًا حذر من شنِّ هجمات موجهة ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا؛ ولذلك تم إرسال حاملة الطائرات الأمريكية (جيرالد فورد) ثم حاملة الطائرات الأمريكية (أيزنهاور) إلى المنطقة، وهما أقوى أسلحة الترسانة البحرية الأمريكية لتكونا رسالة ردع للقوى الإقليمية، وتحذير لها بعدم التدخل في أحداث الصراع الدائر في المنطقة.
وفي نفس الإطار كانت زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية لإسرائيل، والذي أكد خلالها أن زيارته لإسرائيل هدفها التأكد من كون إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها.
وقد سبقت زيارة الرئيس الأمريكي لإسرائيل زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للمرة الثانية، حيث جدد مرة أخرى مقولته بإدانة حماس ودعم إسرائيل في عدوانها الوحشي على سكان غزة، كما قام كبار المسئولين في إنجلترا وفرنسا وألمانيا بزيارة إسرائيل وإعلان تضامنهم مع إسرائيل في عدوانها الوحشي وعقابها الجماعي لقطاع غزة، بل ساهمت في الدعم العسكري لإسرائيل بإرسال قواتها العسكرية إلى المنطقة، وفي مقدمة ذلك اتجاه العديد من السفن الحربية البريطانية إلى الشرق الأوسط دعما لإسرائيل وتضامنًا مع القوات البحرية المتمركزة قبالة ساحل غزة وتل أبيب.
وقد حذَّر الكثير من الخبراء من أن الاجتياح البري لقطاع غزة سوف يستغرق وقتًا طويلًا؛ إذ لا بد وأن حماس قد أعدت الخطط المضادة للاجتياح البري وخوض حرب عصابات طويلة الأمد داخل مدن وشوارع القطاع وعبر ما لديها من شبكة أنفاق كبيرة.
وقد حذر بالفعل ضابط المخابرات السابق في الجيش الأمريكي (سكوت ريتر) في مقابلة له مع إحدى قنوات (اليوتيوب) أن الإسرائيليين إذا ذهبوا إلى غزة سيقتلون بأعداد لم يرها الإسرائيليون من قبل، وأن كتائب القسام جاهزة للعملية البرية، وأنهم سيقومون باستدراج الجيش الإسرائيلي إلى فخ الموت.
وهو ما حدث بعد ذلك حيث استطاعت المقاومة الفلسطينية عقب الاجتياح البري لقطاع غزة إخراج لواء (جولاني)، وهو لواء النخبة في الجيش الإسرائيلي، من الخدمة بعد تكبيده نحو 25 % من قوته، كما أخرجوا لواء المظليين، ثم هرم القيادة في لواء (ناحال عوز)، ولواء (جعفاتي)، وذلك خلال أول شهرين من الحرب، وهو ما يؤكد ما ورطت حكومة نتن ياهو اليمينية المتطرفة فيه الجيش الإسرائيلي مقابل تمسك نتن ياهو بالبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة ولو على جثث عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين والمئات، كذلك من القتلى والمصابين من جنود الاحتلال الإسرائيليين بما لم تشهده إسرائيل من قبل.
وقد توعدت حركة حماس الجيش الإسرائيلي حال إقدامه على الاقتحام البري للقطاع بتكبيده خسائر فادحة، مؤكدة أنه يخطئ من يظن أن الشعب الفلسطيني الآبي الصامد سيغادر أرضه، حتى لو كانت تحت القصف أو الاحتلال.
وقد حذرت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية من تحول عملية الاجتياح البري لقطاع غزة إلى عملية كارثية تنتهي بفشل ذريع وقتل أعداد كبيرة من الجنود الإسرائيليين بدون هدف من جهة، والقيام بمذابح ومجازر جماعية لسكان غزة من جهة أخرى، تجعل سكان قطاع غزة يواجهون كارثة (نكبة ثانية) تماثل نكبة 1948، التي ما زال يتذكر جميع الفلسطينيين مشاهدها التي عاشها آباؤهم وأجدادهم من 75 سنة؛ إذ إن فرار أكثر من مليون فلسطيني للنجاة بحياتهم، أكثر من نصفهم على الأقل من الأطفال والنساء، وكبار السن، وأصحاب الاحتياجات الخاصة والمرضى، مع اختلاف أحوالهم؛ منهم مَن سيتشبثون ببيوتهم المدمرة لا يتركونها، ومنهم مَن يهربون نحو الجنوب سيرًا على الأقدام أو على الدرجات الهوائية أو على الدواب يحملون ما استطاعوا من ممتلكاتهم، فيصيرون قطعًا على شفا كارثة تاريخية، ولو نجحت إسرائيل في تدمير القطاع على رؤوس سكانه فسيتم نقش هذا الفعل بفظائعه في وعي العالم العربي كله وكل الفلسطينيين، بل ووعي العالم الثالث لأجيال قادمة، وهذا يؤثر بدوره على قبول إسرائيل عالميًّا.
ومع دخول العدوان أسبوعه الثاني من طوفان الأقصى كثفت إسرائيل من هجماتها الواسعة على مناطق شمال ووسط قطاع غزة في محاولة لإخلاء مناطق كاملة من شمال القطاع من السكان ودفعهم إلى وادي غزة؛ تمهيدًا للهجوم البري المحتمل، وقد بلغ عدد الضحايا حتى 14 أكتوبر 2023 نحو 2215 شهيدًا و8714 جريحًا.
وفي يوم السابع عشر من أكتوبر قام الجيش الإسرائيلي بقصف المستشفى الأهلي المعمداني في جنوب غزة، وهو مملوك للكنيسة الإنجيلية في القدس، فتم هدمه على مَن فيه من المرضى والأطقم الطبية والعاملين فيه؛ مما تسبب في مقتل المئات منهم، مما أحدث ردود فعل صادمة في أنحاء العالم.
وقد نتج عن استهداف المستشفيات مع الانقطاع الكامل للكهرباء والماء عنها أن أجريت عمليات لجرحى ومصابين في طرقات تلك المستشفيات وبدون تخدير، وقد صارت الأوضاع المتدهورة تهدد بانهيار القطاع الصحي في قطاع غزة بالكامل، بينما الآلاف من سكانه أشد ما يكونون حاجة إلى العلاج والدواء، وإلى التعامل الفوري مع عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين.
وقد بلغ عدد الضحايا في يوم 20 أكتوبر 2023 نحو 4137 شهيدًا وفق ما أعلنته وزارة الصحة التابعة لحركة حماس؛ بالإضافة إلى إصابة 13162 آخرين بجروح مختلفة.
وتوالت التحذيرات الإسرائيلية التي تحث الفلسطينيين بقوة على ترك شمال غزة والتوجه وسط وجنوب القطاع، مع تصعيد الضغط العسكري والمجازر وأعمال القتل لإجبار الفلسطينيين على الهجرة القسرية إلى جنوب القطاع، وفي يوم 22 أكتوبر ألقت الطائرات الإسرائيلية منشورات على الفلسطينيين في شمال غزة تتضمن تحذيرًا واضحًا بأن من لم يغادر منهم شمال القطاع سيتم تحديد هويته على أنه متواطئ ومتعاطف مع منظمة حماس الإرهابية.
ومع اقتراب الحرب البرية كانت عائلات الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس والمقاومة الفلسطينية يحثون الحكومة الإسرائيلية على كبح جماح التدخل العسكري، والتفاوض بدلًا من ذلك على إطلاق سراح المحتجزين، ولكن الحكومة الإسرائيلية المتعطشة للانتقام، وقد أصيبت في كبريائها يوم السابع من أكتوبر لم تعطِ أي اهتمام لتلك الدعوات، ومارست الدعاية الكاذبة ضد حماس، وتمادت الحكومة الإسرائيلية مع الإعلام الصهيوني في التهجم، بل والبطش بكل مَن يبدي تعاطفًا مع الفلسطينيين في معاناتهم.
معاناة الفلسطينيات الحوامل:
كانت الفلسطينيات الحوامل في قطاع غزة يعشن في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتوحشة أوضاعًا مأساوية يصعب وصفها، حيث يوجد في القطاع قرابة 40 ألف امرأة حامل، منهن 9 آلاف على وشك الوضع خلال أيام أو أسابيع قليلة، وجميعهن يعانين في ظل الانهيار شبه الكامل للمنظومة الصحية في القطاع من جراء العدوان الهمجي الإسرائيلي، فكثيرات منهن كن يتعرضن للموت ببطء يومًا بعد يوم:
- فهناك الخوف والفزع المستمر، وآثار الصدمة النفسية للحرب عليهن.
- وهناك التشريد ومعه فقد أبسط حقوق الرعاية العائلية والعيش في أمان داخل أسرهن.
- وهناك صعوبة الوصول إلى المستشفيات التي صارت مكتظة بالشهداء والجرحى والمصابين، بل والنازحين والفارين من الغارات، بينما هذه المستشفيات تعاني من النقص الشديد في المستلزمات الطبية والأدوية، مما تصبح معه الأولوية ليست لرعاية الحوامل، ليصارعن وحدهن آلام المخاض تحت قصف يهدد حياتهن وحياة أجنتهن، وقد قتل منهن كثيرات وأجنتهن داخل أرحامهن، وقد أنهك الحصار الإسرائيلي والغارات الجوية المتكررة القطاع الصحي، الذي هو يعاني من قبل بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة من عام 2005م.
- وقد تحولت أقسام النساء والولادة بالمستشفيات إلى ملاجئ وأقسام للطوارئ لإنقاذ المدنيين المجروحين والمصابين، وقد أصبحت أغلب الأجهزة الطبية التي لا غنى عنها في متابعة الحمل - خاصة أجهزة السونار- أو تستخدم في الولادة تحتاج إلى الصيانة ولم تعد صالحة للعمل، كما تحولت غرف العمليات المجهزة للولادة مع ضغط العمل إلى غرف عمليات لاستئصال الرصاص وشظايا القنابل من أجساد الجرحى؛ مما اضطر معه الأطباء إلى إجراء بعض الولادات داخل مشرحة الموتى وأمام ثلاجات الموتى.
- وزاد من الكارثة اضطرار الأطباء إلى إجراء عمليات إجهاض لبعض الحالات لخطورة الوضع الصحي لهن أو لوفاة الأجنة في أرحام الأمهات؛ خاصة مع عدم تناول الطعام والحصول على العناصر الغذائية الأساسية، وفقد الماء والسوائل بالقدر اللازم، بل إن مئات السيدات اللاتي وضعن مواليدهن خلال الأسبوعين الماضيين توفي نحو نصف مواليدهن بعد الولادة بقليل.
- كما حذر الأطباء إلى أن قصف المدنيين بالقنابل الفسفورية المحرمة دوليا ستزيد من فرص ولادة أطفال مشوهين.
فقد الأطفال الفلسطينيين للحماية القانونية:
تعرض الآلاف من الأطفال الفلسطينيين للقتل المباشر من جراء القصف الجوي الإسرائيلي المكثف، حيث تحول كل مكان فيه فلسطينيون إلى هدف متعمد للغارات الجوية بلا أدنى تمييز، وهي مخالفة سافرة وصريحة لكل القوانين الدولية الموضوعة للحماية الكاملة للأطفال في أماكن وأثناء الصراعات المسلحة، والتي يعد مخالفتها بمثابة جرائم حرب وجرائم ضد إنسانية.
وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد من القرارات في سبيل تحقيق الحماية الكاملة للأطفال الموجودين في دائرة النزاعات المسلحة، من أهمها: الإعلان العالمي لحقوق الطفل الصادر في 20 نوفمبر 1959، والإعلان الخاص بحماية النساء والأطفال في أثناء الطوارئ والنزاعات المسلحة الصادر في 14 ديسمبر 1974، والإعلان العالمي لبقاء الطفل وحمايته ونمائه عام 1990.
ومن أهم القواعد الدولية الصارمة لحماية الأطفال في الحروب والصراعات المسلحة: ما تضمنته الاتفاقية الدولية لحماية حقوق الطفل عام 1989، كما اتخذ مجلس الأمن عدة قرارات مهمة لحماية الطفل في أثناء المنازعات المسلحة؛ كان أولها: القرار رقم 1261 لسنة 1999 وآخرها القرار رقم 2143 لسنة 2014. ورغم فظاعة جرائم الاحتلال الصهيوني ضد الأطفال الفلسطينيين المخالفة لجميع الاتفاقيات الدولية لحماية الطفل والتي توجب التحقيق الجنائي الدولي ومعاقبة التي ارتكبها ويرتكبها، فنرى حالة مستنكرة من الصمت الغربي تجاهها.
إسرائيل وسياسة التهجير القسري للفلسطينيين:
دائمًا ما زعم -ويزعم- قادة إسرائيل عدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني؛ هذا رغم أنه منذ بداية توافد اليهود في هجرات جماعية إلى فلسطين لأكثر من قرن من الزمان، وحتى مع وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل وإلى الآن، فما زالت أعداد السكان الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية هي الأكثر عددًا من اليهود.
وعلى هذا فقد قامت سياسة إسرائيل قبل وبعد قيام دولة إسرائيل عام 1948 وحتى الآن على إجبار السكان الفلسطينيين على ترك أراضيهم وديارهم والنزوح للعيش في المخيمات بالملايين كلاجئين في الضفة الغربية أو غزة أو في الأردن ولبنان، لتتولى منظمة الأونروا (الوكالة الدولية لرعاية وتشغيل اللاجئين) التي أنشئت من أجلهم بعد نكبة عام 1948 لرعايتهم كلاجئين في حاجة دائمة إلى المأوى والغذاء والتعليم والتشغيل، أو قبول الهجرة والإقامة مشتتين في دول العالم غربًا وشرقًا.
وقد بلغت هذه السياسة الإسرائيلية أقصى صورها مع وبعد حرب 1948 والتي أجبرت أكثر من 700 ألف فلسطيني -فيما عرف بنكبة فلسطين- على الهجرة القسرية من المدن داخل فلسطين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة هربًا من المجازر الدموية والمذابح التي أقامها اليهود لهم بغرض إخلاء فلسطين من سكانها الأصليين، تحقيقًا لمقولة كاذبة مخالفة للواقع تمامًا يدعيها الصهاينة ويروجون لها ويدفعون الغرب دفعًا لتقبلها، أن فلسطين أرض بلا شعب، فهي تصلح لشعب بلا أرض، هو الشعب اليهودي.
وبهذه السياسة استمر عمل إسرائيل بلا توقف من بعد عام 1948 وحتى الآن بدرجات متفاوتة من خلال مصادرة أراضي الفلسطينيين، وهدم بيوتهم بحجج ومبررات واهية، والتضييق عليهم في المعيشة وسبل الحياة، والإبعاد لقاداتهم والنشطاء منهم لخارج البلاد، وذلك عبر عقود طويلة، أي: ممارسة التهجير القسري، ولكن بصورة ليست علنية أو مكثفة؛ كي لا ينتبه إليها إلا من يراقب الأمور ويعلم واقع الأحداث عن قرب.
وجاءت أحداث طوفان الأقصى لتظهر تلك السياسة بصورة مكثفة علنية؛ إذ صرح قادة إسرائيل بمباركة أمريكية وإقرار من دول أوروبا الغربية عن رغبتهم القوية في التهجير القسري لسكان قطاع غزة للإقامة الدائمة في أجزاء من سيناء، على أن تمول أمريكا هذا التوجه، وتعوض إسرائيل مصر عن تلك الأجزاء من سيناء بأجزاء من صحراء النقب البدوية، وهو ما رفضته وترفضه مصر بشدة، كما يرفضه أيضًا وبشدة قادة وسكان قطاع غزة؛ إذ يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وهذا المخطط حلم قديم يراود زعماء الحركة الصهيونية منذ نشأتها، وما زال يداعب أذهان قادتها ومن يواليهم إلى الآن ويراهنون عليه، ويحاولون بالقوة استغلال الرد على طوفان الأقصى بتهجير الفلسطينيين قسرًا تحت وطأة القصف الوحشي والمجازر والمذابح وقتل عشرات الألوف وهدم كل مظاهر وسبل الحياة في القطاع ليتركه أهله على مراحل، من شمال القطاع إلى وسطه، ثم من وسطه إلى جنوبه، ثم من جنوبه إلى رفح المصرية وسيناء، وإلا فهناك الشريط الرملي الضيق جنوب ساحل غزة على البحر المتوسط، الذي لا يسع؛ فضلًا عن افتقاده لسبل العيش بحالٍ من الأحول لسكان القطاع الذين يزيد عددهم عن مليون وعدة مئات الألوف من الفلسطينيين.
ملخص تاريخي لسياسة التهجير القسري للفلسطينيين:
تعد فكرة تهجير الفلسطينيين إلى خارج أرضهم أحد أحلام الحركة الصهيونية، بدأ التفكير فيها عام 1904 عندما طالب الناشط الصهيوني (زانجويل) بتهجير الفلسطينيين بالكامل، وتلقَّى الفكرة البارون (روتشيلد)، وهو يعد من أوائل الممولين للحركة الصهيونية، بإعجاب، وعرض دفع الأموال اللازمة لتحقيق ذلك، لكن الفكرة لم تلقَ نجاحًا.
وفي عام 1937 طالب (زئيف جابوتنسكي) الأب الروحي لليمين الإسرائيلي المعاصر بتشجيع التهجير الطوعي للفلسطينيين، فظهرت أول حركة سياسية تطالب بالتهجير الطوعي، وهي حركة (كاخ) الإرهابية، والتي دخلت الكنيست الإسرائيلي ببرنامج للتهجير الطوعي في ثمانينيات القرن العشرين يقدم إغراءات مالية للفلسطينيين أو لبعض الدول التي تقبل استقبالهم، وهي الفكرة التي تؤيدها وتتبناها الأحزاب الإسرائيلية اليمينية مثل: (الصهيونية الدينية) و(عوتسما يهوديت)، إيمانًا منهم بفكرة أن تكون إسرائيل الكاملة من النيل إلى الفرات لليهود فقط، أي: تبني رفض حل الدولتين، وأن التهجير هو الحل للأزمة الديموغرافية؛ خاصة مع تزايد عدد المواليد الفلسطينيين مما يجعل دائمًا تفوق تعدادهم على تعداد الإسرائيليين.
بينما في المقابل: في أوساط اليسار ينظرون لهذا الأمر بتخوف؛ إذ سيؤدي إلى توجيه إدانة إسرائيل واتهامها بالتطهير العرقي وممارسة جرائم حرب؛ إضافة إلى التشكك في قبول الفلسطينيين قيادة وشعبًا لأمر التهجير، بل غالبًا أنهم سيزدادون في التشبث بأرضهم، وهذا كله يجعل تنفيذ التهجير قسرًا أو طوعًا أمرًا صعبًا.
وقد أعلن (سموتيرتش) في عام 2017 عن خطة لتهجير الفلسطينيين لسيناء، وقد طرحت بشدة بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، ولكنها تتراجع يومًا بعد يوم لأسبابٍ، منها:
- موقف مصر الحازم والقاطع برفض الفكرة، وكذلك رفض الأردن لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن.
- رغبة إسرائيل في عدم الصدام مع مصر؛ نظرًا لتراكم قوتها العسكرية، والرغبة حاليًا في الحفاظ على اتفاقية السلام معها.
- تلاحم وتماسك الشعب المصري خلف قيادته السياسية في مواجهة مخطط التهجير الإسرائيلي، للمحافظة على بقاء القضية الفلسطينية ومنعًا لتصفيتها. (راجع في ذلك حوار ملحق الأهرام الأسبوعي - يوم الجمعة 2 فبراير 2024 مع د. محمد عبود أستاذ الإسرائيليات في جامعة عين شمس، ص 2).