الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 18 شعبان 1445هـ

كيف نستقبل رمضان؟ (2) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة: أهمية الاستعداد لاستقبال شهر رمضان:

- الإشارة إلى ما جاء في مقدمة الموعظة السابقة.

- التذكير بأن هناك أمورًا نقوم بها قبل حلول هذا الضيف الحبيب، وأمور نقوم بها عند حلوله، وتحدثنا عن بعض الأمور التي تكون قبل حلوله، واليوم نتحدث عن الأمور التي ينبغي أن نقوم بها عند حلوله.

أولًا: الإقبال على المساجد:

- المساجد تستعد وتنتظر موسم رمضان، لتعمَّر بالقائمين والمتهجدين والذاكرين والمعتكفين، فكن أول المعمرين: قال الله -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور: 36-37).

- أقبل على المساجد، وأكثر من المكث فيها تحفظ صيامك: "كان السلف -رحمهم الله- يتحفظون لصيامهم بكثرة المكث في المسجد".

من فوائد المكث في المسجد:

- بالمكث في المسجد، أنت في صلاة ما دمت في المسجد، والملائكة مشغولة بالدعاء لك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلاَةُ) (متفق عليه).

- بالمكث في المسجد تتساقط ذنوبك، وتكفر سيئاتك ما دمت في المسجد: في الحديث القدسي في اختصام الملأ، قال الله -تعالى-: (يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الكَفَّارَاتِ، قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ) (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"). وقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ -رحمه الله تعالى-: (إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّ لَهُمْ جُلَسَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةَ، فَإِذَا فَقَدُوهُمْ سَأَلُوا عَنْهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مَرْضَى عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ) (رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن صحيح").

- بالمكث في المسجد تطرد همومك وغمومك، وترتاح نفسك، وينصلح بالك، فأنت في خير مكان على الأرض: قَالَ: (أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا) (رواه مسلم). (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28). (أبو إمامة -رضي الله عنه- يأوي إلى المسجد لما أصابته هموم وديون، فعلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاءً نافعًا، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يأوي إليه لما تشاحن مع زوجته).

- بالمكث في المسجد تورث قلبك التعلق بالمساجد، وبه تنال ظل العرش يوم دنو الشمس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ) (متفق عليه). وقال ابن جريج: "كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة"، "وكان الربيع بن خثيم -رحمه الله- من كثرة حبه وملازمته للمسجد يقول: إني لآنس بصوت عصفور المسجد عن أُنسي بزوجتي" (السير).

- فإذا كانت هذه مكانة المساجد في سائر أيام العام؛ فكيف بهذه البقاع الطاهرة في أيام وليالي أعظم موسم لها في العام؟

ثانيًا: الإقبال على القرآن:

- رمضان له خصوصية عظيمة مع القرآن شهر القرآن الأعظم: قال الله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...) (البقرة: 185).

- سيد التالين للقرآن طوال العام، يضاعف من التلاوة في رمضان: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ) (متفق عليه).

قال الحافظ ابن رجب: "دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له… وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان" (لطائف المعارف).

- الصالحون إذا أقبل رمضان تفرغوا لتلاوة القرآن: "كان الزهري -رحمه الله- إذا أقبل رمضان يتوقف عن التحديث، ويقول: إنما هو لتلاوة القرآن وإطعام الطعام"، و"كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن"، وقال سفيان: "كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه" (انظر: لطائف المعارف).

- بل يجتهدون في زيادة الختمات: قال القاسم عن أبيه الحافظ ابن عساكر: "كان مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم" (سير أعلام النبلاء)، "وكان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان قتادة إذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة، وقال ربيع بن سليمان: كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة ما منها شيء إلا في صلاة".

قال النووي -رحمه الله-: "وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم، فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير -رضي الله عنهم-" (التبيان، وانظر: اللطائف، وصلاح الأمة)(1).

- ولمَ لا؟ والقرآن قرين الصيام في الشفاعة يوم القيامة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).

- ستعرف قيمة ذلك عند معاينة الجزاء: قال -صلى الله عليه وسلم-: (يَجيءُ القُرْآنُ يومَ القيامةِ كالرَّجُلِ الشَّاحبِ، فيقولُ: أنا الَّذي أسهَرْتُ ليلَكَ وأظمَأْتُ نهارَكَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)(2).

خاتمة:

- تلاوة القرآن سبب مضاعفة الحسنات في سائر الأوقات؛ فكيف بشهر تضعيف الأجور؟! قال النبي - -صلى الله عليه وسلم- -: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(3).

- أقبل على القرآن في رمضان، ولو كنت ضعيف القراءة، كثير الأخطاء: قال -صلى الله عليه وسلم- -: (الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ) (متفق عليه).

- بل أقبل على القرآن في رمضان، ولو كنت أميًّا لا تحسن القراءة، فعندك السماع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن مسعود -رضي الله عنه-: (اقْرَأْ عَلَيَّ) قَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) (متفق عليه).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وأما حديث ابن عمرو: قال رسول الله -صلى اللهم عليه وسلم-: («‌لَا ‌يَفْقَهُ ‌مَنْ ‌قَرَأَ ‌الْقُرْآنَ ‌فِي ‌أَقَلَّ ‌مِنْ ‌ثَلَاثٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فقد أجاب عنه الأئمة -رضي الله عنهم-.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك؛ فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصًا في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره" (لطائف المعارف).

(2) كالرَّجُلِ الشَّاحبِ": هو المتغيِّرُ اللَّونِ والجِسمِ؛ لِعارِضٍ مِن العَوارضِ؛ كمرَضٍ أو سفرٍ ونحوِهما، وكأنَّه يَجيءُ على هذه الهيئةِ؛ ليَكونَ أشبَهَ بصاحبِه في الدُّنيا، أو للتَّنبيه له على أنَّه كما تَغيَّر لونُه في الدُّنيا لأجلِ القِيامِ بالقرآنِ؛ فكذلك القرآنُ يأتي لأجلِ صاحبِه يومَ القيامةِ، حتَّى يَنالَ به الغايةَ القُصوى في الآخرةِ.

(3) إن قراءة سورة الإخلاص تعدل خمسمائة حسنة؛ فكيف بسورة ق؟ وكيف بالبقرة؟ وكيف بالقرآن كله؟! وكيف لو كررت ذلك مرات؟!