الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 03 يناير 2024 - 21 جمادى الثانية 1445هـ

كيف عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود؟ (موعظة الأسبوع) (2) تعامله مع نقض بني قينقاع للمعاهدة

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- إشارة مختصرة إلى ما جاء في الحديث السابق.

- مَن هم بنو قينقاع؟: هم قبيلة يهودية سكنت المدينة وعملت في مجال الصناعة اليدوية وصياغة الذهب والفضة، ولهم سوق يقصدهم الناس لتأمين حاجتهم من الأدوات أو المصاغ، ولأجل هذه الحِرَف والصناعات كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وهم أول مَن نكث العهد والميثاق من قبائل اليهود‏. ‏

كيف نقضوا المعاهدة؟

- ذكرت كتبُ السير أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين انتصر على المشركين في معركة بدر، اشتد طغيان يهود بني قينقاع، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين.

- كظم النبي -صلى الله عليه وسلم- غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي والأيام‏: فأنزل الله -تعالى-‏: ‏‏(‏قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ)‏ ‏(‏آل عمران: 12-13‏)‏‏. ‏

وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال‏:‏ "لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، ‌أَسْلِمُوا ‌قَبْلَ ‌أَنْ ‌يُصِيبَكُمْ ‌مِثْلُ ‌مَا ‌أَصَابَ ‌قُرَيْشًا، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا، لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا" (رواه أبو داود، والضياء في الأحاديث المختارة).

- ازداد اليهود -من بني قينقاع- جراءة وطغيانًا، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم للمسلمين: روي ابن هشام في سيرته‏:‏ "أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها -وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله -وكان يهوديًّا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع"‏. ‏

كيف تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم؟

- حينئذٍ قرَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- حربهم؛ فلقد كان ذلك منهم بمثابة إعلان نقض للعهد، فأعطي لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم! فحاصرهم أشد الحصار، ودام الحصار خمس عشرة ليلة، حتى أعلنوا الاستسلام!

- سبحان الله! أين الذين كانوا يعلنون العداوة والشجاعة بالأمس؟! أين القوة التي لا تغلب؟! (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ(الحشر: 13).

- قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بالمقاتلة فكتفوا‏، وقيدوا بالحبال والعقال، وهم بقتلهم: وصدق الله -تعالى-‏ لما أنزل قبلها: (‏قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ‏(‏آل عمران: 12، 13‏)‏‏. ‏

مواقف الخذلان من المنافقين:

- مَن هم؟ فئة مِن أهل يثرب أعلنوا إسلامهم ظاهرًا بعد معركة بدر، لما رأوا أن الأمور صارت بيد المسلمين، فجاؤوا مسرعين يطلبون العفو عن حلفائهم اليهود، ليظلوا بين الفريقين لضمان بقاء مصالحهم الدنيوية: "قال أهل السير: أتى رأسُ المنافقين عبدُ الله بنُ أبيٍّ ابنُ سَلُولَ، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ، فأبطأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل ابن سَلُول يده في جيب درع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرسِلْني، وبدا الغضب في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني يوم الحدائق ويوم بعاث من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هم لك" (السيرة النبوية لابن هشام).

- النبي -صلى الله عليه وسلم- يترك معاقبتهم على خيانتهم تأليفًا للمنافقين، ودرءًا للفتنة، ويأمر بطردهم خارج المدينة إلى أذرعات الشام بعد أخذ أموالهم وأسلحتهم، وترك لهم النساء والذرية، وأمهلهم ثلاثة أيام للرحيل.

مواقف الإيمان من الصادقين:

- كان لعبادة بن الصامت -رضي الله عنه- حلف مع بني قينقاع مثل الذي كان لابن سلول، لكنه لم يقف موقفه، بل تبرأ منهم ومن فعالهم: قال: "يا رسول الله، أتولى اللهَ ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم".

- النبي يولي عبادة -رضي الله عنه- الإشراف على طردهم في مشهد فريد في الولاء والبراء: ذكر أهل السير: "لما أمر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عُبادة بن الصَّامت أن يُجليَهم، جعلت قينقاع تقول: يا أبا الوليد! من بين الأوس والخزرج -ونحن مواليك- فعلت هذا بنا؟ قال لهم عبادة: لمَّا حاربتم جئتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنِّي أبرأ إليك منهم، ومن حلفهم"، وكان ابن سلول، وعبادة بن الصَّامت منهم بمنزلةٍ واحدةٍ في الحلف، فقال عبد الله بن سلول له: "تبرَّأتَ من حلف مواليك؟! ما هذا بيدهم عندك"، فذكَّره مواطن قد أبْلَوْا فيها، فقال عبادة: "يا أبا الحُبَاب! تغيَّرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، أما والله! إنك لمُعْصِمٌ بأمرٍ سنرى غيَّه غدًا"، وأخذهم عبادة بالرَّحيل، والإجلاء، وطلبوا التنفُّس، فقال لهم: "ولا ساعةً من نهارٍ، لكم ثلاث لا أزيد عليها، هذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كنت أنا ما نفَّستكم"، فلمَّا مضت ثلاث، خرج في آثارهم حتَّى سلكوا إلى الشَّام، وهو يقول: "الشَّرف الأبعد، الأقصى، فالأقصى".

- الله -تعالى- ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- الموقفين في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .  فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ(المائدة: 51، 52).

- وهكذا خرج بنو قينقاع من المدينة صاغرين، قد ألقَوا سلاحَهم، وتركوا أموالهم غنيمةً للمسلمين، وهم كانوا من أشجع يهود المدينة، وأشدِّهم بأسًا، وأكثرهم عددًا وعُدَّةً؛ ولذلك لاذت القبائل اليهوديَّة الأخرى بالصَّمت، والهدوء، فترةً من الزَّمن بعد هذا العقاب الرَّادع، وسيطر الرُّعب على قلوبها.

خاتمة: خلاصة ما سبق:

- اليهود أهل حسد وغل على المسلمين في كل زمان ومكان: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(البقرة: 109).

- المنافقون يوالون الأعداء في كل زمان ومكان: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(المنافقون: 4).

- الصادقون يقدِّمون مصالح دينهم على مصالحهم الشخصية: (موقف عبادة بن الصامت من حلفائه اليهود).

وللحديث بقية مع صفحة جديدة من تاريخ المغضوب عليهم مع نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

فاللهم عليك بهم، وطهِّر الأقصى من دنسهم.