مبشِّرات في أوقات الشدائد والأزمات (1)
كتبه/ غانم فرج بو حزين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن أعظم الحسنات وأجلِّ القُرُبات التي يتقرب بها المسلم لرب الأرض والسماوات في أوقات الشدائد والأزمات، أن يُذكِّر أبناء أمته بالمبشرات الصادقات، لندفع بها اليأس والإحباط، ونجدد العزائم ونرفع المعنويات، ونتلمس أسباب النصر المبين، ونثق بموعود رب العالمين على لسان سيد المرسلين، ولا نجعل للخوف والهلع طريقًا إلى قلوب المؤمنين، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لهم بعد العسر يسرًا وبعد الضيق والشدة، سعةً وفرجًا، قال -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح:5-6).
قال السعدي -عليه رحمة الله-: "هذه بشارة عظيمة، أنه كلما وُجد عسر وصعوبة، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسرُ جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه، كما قال -تعالى-: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7)".
فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشِّر أصحابه بالرفعة والظهور على أعدائهم، وهم في أشد حالات الضعف، وأعداؤهم متسلطون عليهم؛ فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ -رضي الله عنه- قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً، فقُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
- فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الصبر هو الوسيلة العظمى، والزاد النافع في هذا الطريق الطويل الصعب الشاق الوعر، المليء بالعقبات.
- وذكّرهم -صلى الله عليه وسلم- بمَن سبقهم مِن المستضعفين ليكون لهم زادًا في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم.
- وبشَّرهم ووعدهم حتى لا ييأسوا من العاقبة، وأخبرهم أن العاقبة للمتقين، وفي غزوة الأحزاب، وقد عَظُم الخطب واشتدت المحنة، وتكالب الأعداء من كل حدب وصوب على المسلمين؛ ليكسروا شوكتهم ويستأصلوا شأفتهم، وهم في عقر دارهم، حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، يأتي التثبيت من صاحب القلب الثابت -صلى الله عليه وسلم-، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لاَ تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ووَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: (بِسْمِ اللهِ فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا) (رواه أحمد، وصححه الحافظ ابن حجر).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.