الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (139) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (6)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76).
الفائدة الثامنة:
قوله -تعالى-: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) فيه: استجابة الدعاء ولو بعد سنين طويلة، وقد دعا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لهبة الصالحين عند هجرته إلى ربِّه، ومفارقته قومَه بعد أن حاولوا قتله حرقًا، قال الله -تعالى-: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ . فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ . وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 97-100)، وقد كان شابًا حين أُلقِي في النار، وحين هجر قومه وهاجر إلى القوم التي بارك الله فيها للعالمين، قال الله -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 60).
وقد ذَكَر غيرُ واحد من السَّلف من أهل السِّير: أن إبراهيم -عليه السلام- وُهِب إسماعيل وهو ابن ثمانين سنة، ووُهِب إسحاق بعده بثلاث عشرة سنة. وقيل: كان أكبر من ذلك كما مَرَّ علينا في التفسير، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- عنه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم: 39)؛ فهو على أي حالٍ كان كبيرًا في السن، وكذا امرأته سارة -رضي الله تعالى عنها-، وقد كان يحب أن يكون له منها الولد؛ لأنها كانت رفيقته في الهجرة وفي الصبر على مفارقة وطنها ودين أهلها لله -سبحانه وتعالى-، فإذا كان دعاء أنبياء الله، بل دعاء خليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- اُستُجِيب بعد عشرات السنين امتحانًا من الله لعبادة بالثقة به -سبحانه-، وبصدق وعده والتعلُّق برحمته وعدم القنوت منها، وعدم الاستعجال في الدعاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) (متفق عليه).
فكيف بمَن دون الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين-، وقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (الأحقاف: 35)؟!
وقال الله -عز وجل- له لما دعا عليهم بأسمائهم أن يهلكهم الله -عز وجل- لما شَجُّوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وقتلوا المستضعفين من أصحابه غدرًا وظلمًا، وعذَّبوا الباقين، فدعا عليهم وقنت شهرًا يدعو عليهم، فأنزل الله عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128).
وفي تأخر إجابة الدعاء -ولو بهلاك الكافرين- مِن أنواع العبودية ما ينتفع به أهل الإيمان من الصبر والإلحاح في الدعاء والتضرع والانكسار لله، والافتقار له وحده، وقد تخلَّى عنهم كل العالم، وتنكَّروا لشعاراتهم ومواثيقهم الدولية -كما يسمونها!-.
وكذلك في تأخر إجابة الدعاء مِن كمال التوكل على الله وحده، والاستعانة به وحده، وعدم اليأس من رحمته، وشهود نعمته وفضله ورحمته وبركاته، وحمده ومجده، ونفوذ أمره؛ فإذا كان ليس للأنبياء من الأمر شيء؛ فكيف بمَن دونهم؟! فإنما نحن عبيد يفعل الله بنا ما يشاء، وليس لنا إلا التسليم والرضا فيما نحب ونكره، ومزيد الطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكرَه، وفي الحزن والفرح، وفي الكرب والفرج، وفي الاستضعاف والتمكين فنحن عبيد لله -سبحانه وتعالى- على أيِّ حال؛ يفعل -عز وجل- ما يشاء، وعندنا يقين بظهور الدين وعلو الإسلام، وانتصار الحق وعودته إلى أهله، وإن مات منا شهداء، وجرح منا مجروحون، وهدمت بيوت على أصحابها؛ فكل ذلك لرفع الدرجات، ونيل الحسنات وتكفير السيئات، وتمهيد الأمة لمستقبل عظيم بإذن الله -تبارك وتعالى-.