كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل في هذا المقال الرد على دعوى عدم حجية حديث الآحاد.
6- إن قيل: حديث الآحاد يفيد الظن، ويحتمل الخطأ فيه، عمدًا أو سهوًا، أو بعدم ضبط في النقل ونحوه، وما كان هذا صفته لا تؤخذ منه عقائد، فوجب ترك العمل بحديث الآحاد لذلك.
فالجواب على ذلك: أن هذا مردود من وجهينِ:
الأول: إجْمَاع سلف الأمة على قَبول أحاديث الآحاد في العقائد، وإثبات صفات الرب -تعالى-، والأمور الغيبية العلمية بها.
- الثاني: هذا الادِّعاء يُوجِب أيضًا طَرح العمل بأحاديث الآحاد في الأحكام، والفرعيات لنفس العلة، وهذا باطل؛ فإن الذين نقلوا هذا، هم الذين نقلوا هذا؛ فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها، وحينئذٍ فلا وثوق بشيء نُقِل لنا عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وهذا انسلاخ من الدِّين.
قال ابن القيم -رحمه الله- في الصواعق المرسلة: "ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها، كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطَّلَبِيَّة بها، فما الفرق بين باب الطَّلَب وباب الخبر، بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تَزَل تحتج بهذه الأحاديث في الخَبَرِيَّات، كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما الأحكام العملية: تتضمَّن الخبر عن الله بأنه شَرَّع كذا، وأوجبه ورضيه دينًا، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، وأهل الحديث، والسُّنة، يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات، والقدر، والأسماء، والأحكام، ولم ينقل عن أحدٍ منهم البتة أنه جَوَّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟ نعم سلفهم بعض مُتأخِّري المتكلمين، الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلِّفين، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرينِ، وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعًا عن إمام من أئمة المسلمين، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، وهذا عادة أهل الكلام، يحكون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين؛ بل أئمة المسلمين على خلافه".
7- مآل الأَخْذ بهذا القول، هو: الاقْتِصار في العقيدة على ما جاء به القرآن، وترك العمل في العقائد بالأحاديث النبوية، وعدم الاعْتِداد بما جاء فيها من الأمور الغَيْبِيَّة، فإن أكثر الأحاديث النبوية آحادٌ، والمتواتر منها قليل بالنسبة إلى الآحاد، والمُتواتِر اللفظي منها أقل، والمتواتر المعنوي إنما تختلف ألفاظه وتتفاوت، والناس يختلفون في إثبات هذا المُتواتِر ويتفاوتون.
ويشهد لذلك: أنَّ المتكلمينَ أنفسهم لا تجدهم يثبتون أمرًا عقائديًّا مستدلينَ بثبوته متواترًا عند علماء الحديث، وأغْرب من ذلك وأَعْجَبُ: ادّعاء بعضهم أنه لا حاجة إلى السُّنة في أمور العقيدة، وأنه لم يثبت في أحاديث الآحاد ما تنفرد السنة به في أمور العقيدة، والأعْجَب تصديق البعض ذلك والأخذ به، يقول أحدهم: "وليس في العقائد ما انفرد الحديث بإثباته"؛ وهذا بوضوح ما انتهى به الأمر بالنسبة لهؤلاء القائلينَ بعدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد أن نبذوا السنة النبوية كلها من الناحية العملية.
8- كثيرًا من العقائد الإسلامية التي تَلَقَّتْها الأُمَّة عن السَّلَف، وتلقت أحاديثها بالقبول، هي من الآحاد، وتَرْكُ العمل بأحاديث الآحاد تَرْكٌ لهذه العقائد الإسلامية الثابتة، وتخطئة للصحابة في اعتقادها، واتخاذها دينًا، وأن يكون إسلامنا غير إسلامهم، وعقائدنا غير عقائدهم.
وسنذكر -إن شاء الله- في المقال القادم أمثلة على ذلك.