كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76).
هذه القصة العظيمة المليئة بالعِبَر النافعة لأهل الإيمان بمعرفة فضل الله على عباده المؤمنين وإمائه المؤمنات، بإجابة دعوتهم ولو بعد عشرات السنين، وإكرامه -سبحانه- للمرأة المؤمنة كما أكرم الرجل المؤمن بعد تضحيتهما في سبيل الله بالولد الصالح بعد الكِبَر مع العقم، والتأمل في أمره النافذ -سبحانه-، وقدرته الشاملة، ورحمته بعباده المؤمنين، وبركاته عليهم، وذلك من دلائل حمده ومجده -سبحانه وبحمده-، ومحبته -سبحانه- للعُبَّاد الدَّعَّائين الحُلَمَاء من عباده، حتى ولو لم يستجب لهم في بعض أدعيتهم.
وإلى هذه القصة من ابن كثير، ثم ذِكْر فوائدها بعد ذلك:
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) وهم الملائكة (إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى) قيل: تبشره بإسحاق. وقيل: بهلاك قوم لوط. ويشهد للأول قوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ). وقوله: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ) أي: عليكم؛ قال علماء البيان: هذا أحسن مما حيوه به؛ لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام. (قلتُ: أي: الجملة الاسمية التي مبتدؤها قوله: سلام، وخبرها محذوف دَلَّ عليه السياق، وهو الجار والمجرور من عليكم).
(فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ) أي: ذهب سريعًا فأتاهم بالضيافة، وهو: عجل فتى البقر. (حَنِيذٍ): وهو مشوي شيًّا ناضجًا على الرضف، وهي الحجارة المحماة.
هذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وغير واحدٍ، كما قال في الآية الأخرى: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) (الذاريات: 26-27).
وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوهٍ كثيرةٍ.
وقوله: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) تنكرهم. (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) وذلك لأن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام، ولا يشتهونه ولا يأكلونه؛ فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به، فارغين عنه بالكلية، فعند ذلك نكرهم، وأوجس منهم خيفة.
قال السدي: لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أَجَلَّهم، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فذبحه ثم شواه في الرضف، فهو الحنيد حين شواه، وأتاهم به فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم؛ فذلك حين يقول: وامرأته قائمة وهو جالس في قراءة ابن مسعود، فلما قربه إليهم قال: ألا تأكلون، قالوا: يا إبراهيم إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن. قال فإن لهذا ثمنًا. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلًا. (قلت: مرسل ضعيف).
(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) يقول: فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم، وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال: كانوا أربعة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ورُفائيل. (قلتُ: لم يَرِد في الكتاب والسنة أيُّ دليل على أن مِن الملائكة مَن اسمه روفائيل).
قال نوح بن قيس: فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، فقرَّب إليهم العجل، مسحه جبريل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمِّه، وأم العجل في الدار.
وقوله -تعالى- إخبارًا عن الملائكة: (لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) أي: قالوا: لا تخف منا، إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم، فضحكت سارة استبشارًا منها بهلاكهم، لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم وعنادهم، فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس.
وقال قتادة: ضحكت امرأته وعجبت مِن أن قومًا يأتيهم العذاب وهم في غفلة، فضحكت مِن ذلك وعجبت، فبشرناها بإسحاق. (قلتُ: القول بأن البشارة كانت من أجل استبشارها بهلاكهم فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد، تضييق لعمل سارة -رضي الله عنها- وقد ضَحَّت عَبْر الزمان بأهلها ووطنها، وصحبت إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- منذ قديم).
وقوله: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) قال العوفي عن ابن عباس: فضحكت، أي: حاضت.
وقول محمد بن قيس: إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم، ضعيفان جدًّا، وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما، فلا يُلتفَت إلى ذلك، والله أعلم.
وقال وهب بن منبه: إنما ضحكت لَمَّا بُشِّرت بإسحاق، وهذا مخالف لهذا السياق، فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها. (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) أي: بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، كما في آية البقرة: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 133).
ومِن هاهنا استدل مَن استدل بهذه الآية، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق؛ لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خُلْف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعيَّن أن يكون هو إسماعيل، وهذا مِن أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه -ولله الحمد-" (انتهى من تفسير ابن كثير).
ونكمل في المقال القادم -إن شاء الله-.