الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتتقدَّم "الدعوة السلفية بمصر" بخالص العزاء للأشقاء في المملكة المغربية في وفاة مَن توفي في الزلزال: "لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار؛ فلتصبروا ولتحتسبوا".
وقد أحسن اللهُ عزاءَ الأمة الإسلامية فيمَن يموت منها بمثل هذه الحوادث، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ) (متفق عليه).
كما ترجو الدعوة السلفية الشفاء والعافية لكلِّ المصابين، سائلين الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يشفيَ المصابين شفاءً لا يغادر سقمًا، وأن يجعل معاناتهم مِن روعة الحادث سببًا لمغفرة ذنوبهم، ورفع درجاتهم، وتأمينهم من روعة وأهوال يوم القيامة.
وهناك معانٍ إيمانية لا بد أن نقفها مع كل آية من آيات الله -عز وجلٍ-، ومن أعظمها الزلازل، نسأل الله أن يقي كل بلاد المسلمين منها، ومن هذه المعاني ما يلي:
1- لا شك أن العِلْمَ الحديث رَصَد بعضَ الأسباب المادية لحدوث الزلازل، وكذلك رصد علم الفلك منذ زمن بعيد أسباب ظاهرتي: "الكسوف، والخسوف"، ودراسة هذا العلم مطلوب من باب معرفة سنن الله في الكون، وإذا هدى الله الإنسان لأية أسباب أو مقدمات يستطيع بها توقُّع هذه الأمور قبل أن تقع فيعد لها الأسباب؛ فكل هذا داخل في نطاق العلم النافع.
2- ولكن ما تقدَّم من معرفة تلك السنن الكونية لا ينفي أنها من خَلْق الله، وما يجري فيها هو بقَدَر الله، وأنها موضع للتدبر والـتأمل الذي يقود للإيمان بعِظَم الخالق وليس العكس، كما قال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 185).
3- كما أن الأمور التي يكون فيها شيء من اضطراب نظام الكون المعتاد -ولو مؤقتًا-، يجب أن يذكرنا بأهوال يوم القيامة، فيذكرنا كسوف الشمس -وإن علمنا سببه- بزوالها يوم القيامة، وتذكرنا الزلازل بزلزلة الساعة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج:1)، وقال -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الإسراء: 59).
فبيَّن الله أن الحكمة من تقدير هذه الحوادث هو تخويف العباد ليتوبوا، وهذا لا يتنافى مع أن الله إذا قدَّر شيئًا، قدَّر له سببه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف، وغيره من الآيات والحوادث لها أسباب، وحِكَم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك".
4- أن الأحداث الكونية التي تقع مِن جرائها أمور مؤلمة مِن فقد أنفس أو أموال، هي بسبب ذنوب البشر، قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).
ولما أجدب الصحابة وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وقدَّم عمر -رضي الله عنه- العباس -رضي الله عنه- للدعاء وصلاة الاستسقاء، قال في دعائه: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة".
5- أن هذه الكوارث قد تكون قسطًا معجلًا من العذاب لبعض الأقوام، وقد تكون رحمة لمَن استثمرها واتعظ بها وتاب، وقد تكون رفعة لدرجات مَن تصيبهم مِن المطيعين، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (الأنعام: 42-44).
ومِن هذه الآية نأخذ أيضًا: أن البلاءَ العام قد ينزل بقومٍ؛ بسبب ذنوبهم، وهناك مَن هو أكثر فسادًا منهم ولا ينزل بهم البلاء؛ استدراجًا لهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثُمَّ قَرَأَ: (وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ، إذا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102) (رواه مسلم).
6- أن الله يذكر هذه الأمة خاصة بهذه الآيات كلما بَعُدَت عن شرع الله وظهر فيها المنكر، فعن أم المؤمنين زينت بنت جحش -رضي الله عنها- أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) (متفق عليه).
ولذلك كان من علامات الساعة: كثرة الزلازل؛ لكثرة ما يُحْدِث الناسُ من انحرافاتٍ.
7- قال -تعالى-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم).
ومِن ثَمَّ فإن أقل ما تقتضيه الأخوة الإيمانية هو الشعور بما يـتألم منه إخوانك في كل مكان والتعبير عن هذا الشعور، وهذا ما يخفف من آلامهم، وإن لم يكن معه أي مساعدة مادية، وبعد هذا الشعور بمصابهم يكون الدعاء لهم، وهذا لا يغني أيضًا عن المساعدة بكل صور الأسباب الظاهرة من فتح باب التبرعات وإرسال المساعدات الغذائية والطبية والإغاثية، وغيرها مما يحتاجه إخواننا هناك، نسأل الله أن يسترهم ويطعمهم ويسقيهم ويأمنهم
8- وأما واجبنا تجاه أنفسنا: فتوبة كل فرد فيما يخصه من ذنوب، وكذلك التعاون والإنكار على المنكرات التي تشيع في المجتمعات الإسلامية.
ومنها -على سبيل المثال-:
- منكرات الترويج للفواحش مِن: الشذوذ والزنا، واعتبار أن هذه المنكرات المقطوع بحرمتها في دين الإسلام نوع من الحرية الشخصية! والحفلات المخالفة للشرع لا سيما تلك التي تجمع بين الانحراف الأخلاقي والفساد العقدي، بالترويج لأفكار ومذاهب منحرفة عن دين الله وانتشار المخدرات، ولا شك أن هذه الصور لم تشق طريقها إلى بلاد المسلمين إلا بعد قتل غيرة الرجال وحياء النساء، وبناء الأُسر على الصراع والنزاع بدلًا من المودة والرحمة، كما في دين الله -عز وجل-، فخرجت أجيال وقع الكثيرون منها فريسة سهلة لكل هذه الانحرافات.
- شيوع الربا وبناء الاقتصاد عليه، دون اتخاذ خطوات جادة للخروج من الحصار العالمي الذي يربط اقتصادنا باقتصادياته الربوية؛ رغم أننا نتجرع كل يوم من جراء هذا الارتباط الذي يمكِّن الدول الغنية المرابية أن تسمن على حساب ثروات غيرها.
- انتشار ظواهر الاحتكار والإثراء على حساب المجتمع واستغلال الأزمات، ومما يجب الحذر منه صرف العبادات لغير الله وهو ما يفعله بعض المسلمين جهلًا بدينهم، فيطلبون حاجاتهم من غير الله ويلهجون بطلب المدد والعون من الموتى والغائبين، أو يطوفون حول قبورهم كما يطاف حول بيت الله الحرام، ويذبحون الذبائح ويقدِّمون النذور، ومنه: نسبة معرفة الغيب لغير الله، قال -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59).
وقد يستدل بالمقدمات على النتائج المعتادة بطريق غلبة الظن، كما يتوقع خبراء الأرصاد حالة الطقس في يوم ما استنباطًا من حالة الطقس في اليوم الذي قبله، وطالما كانت هناك سنن كونية في هذا، وتم ذكر التوقعات على أنها توقعات قد تقع وقد يقدِّر الله عدم حدوثها بأمور أخرى يقدرها، والزلازل لم يهتدِ الإنسان لمقدمات لها يعرفها بها.
وفي كلِّ الأحوال فإن الزعم باستنتاج حدث مستقبلي من حركة الكواكب هو صورة من صور الشرك، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
وقد فضح الله كلَّ مَن يتكلم بالتنجيم لا سيما في زماننا حيث تبقى أقوالهم محفوظة بفضل الله، ويتبين أنهم يطلقون توقعات عامة، مثل: حدوث زلزال أو موت عظيم، فإن وقع شيء من هذا طاروا وطار به أولياؤهم يصيحون في الناس أن نبؤات كاهنهم قد صدقت وفي أحيان كثيرة لا يحدث شيء مما افتراه فيخنس هؤلاء ويبلسون.
ومع هذا ينسى كثيرٌ من الناس كذبات الكهان الصريحة الواضحة ويذكرون الوقائع التي يمكن أن يدعوا فيها أنها نبؤة صادقة من كاهنهم.
فنعوذ الله أن نشرك بالله شيئًا نعلمه، ونستغفره مما لا نعلمه، ونسأله -عز وجل- أن يقي مصر وسائر بلاد المسلمين شرَّ الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
الدعوة السلفية بمصر
26 صفر 1445هـ
11 سبتمبر 2023م