كتبه/ محمد خلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن أعظم أسباب إجابة الدعاء: أن يُبرِز العبدُ لسيده ومولاه كمال ضعفه وفقره وحاجته، وأنه لا حول ولا قوة له إلا بالله، وأنه لا غنى له عن رحمته طرفة عين في سائر أحواله، ولو بلغ ما بلغ من الفضل والمنزلة؛ فهذا سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- يقول لفاطمة ابنته -رضي الله عنها-: (مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ، وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَاحَيُّ يَاقَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني).
وهذا خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- توسل إلى ربه في ضعف، وانكسار وخضوع، وتبرؤ من حوله وقوته، فقال مستعيذًا بربه ومستجيرًا به من أن يقع هو وذريته في عبادة الأصنام كما في قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، فكان إبراهيم التيمي يقص ويقول في قصصه: "مَن يأمن مِن البلاء بعد خليل الله إبراهيم، حين يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)"، ثم علل هذا -عليه السلام- بسبب إضلالها لكثير من الناس، ولذلك سأل ربه أن يعافيه من مصير هؤلاء الذين أضلتهم فعبدوها وأشركوا بربهم، كما قال -تعالى- عنه: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم: 36)، فهذا حال العارفين بربهم وبأنفسهم.
وهذا زكريا -عليه السلام- افتتح الله -سبحانه وبحمده- بذكر دعائه في مطلع سورة مريم بعظيم رحمته -سبحانه- بزكريا -عليه السلام-، وذكر ذلك بمقام الربوبية المتضمنة للرحمة والرأفة، والغنى والإحسان المتواصل، وذكر زكريا بصفة العبودية المتضمنة للفقر والحاجة والنقص، وقد أبرز زكريا -عليه السلام- مقام العبودية والافتقار، والتذلل في مسألته، بأسلوب بديع يصعب معه أن ترد حاجته، وكيف والمسئول هو القريب المجيب -سبحانه وبحمده-؟! فقال -عليه السلام- كما قص علينا ربنا -سبحانه-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 4-6).
فكانت الإجابة وكان الجبر، وكان المن من الغني الكريم، فقال -سبحانه وبحمده-: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (مريم: 7).
وكما في دعاء عباد الرحمن الذين مدحهم -سبحانه وتعالى- فقال: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا . إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (الفرقان: 65-66).
قال السعدي -رحمه الله- في قوله: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا): "وهذا منهم على وجه التضرع لربهم، وبيان شدة حاجتهم إليه، وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب" (انتهى).
وكذا كان مِن دعاء أولي الألباب الذين ذكرهم -سبحانه- في خواتيم آل عمران، فقال عنهم: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (آل عمران: 190-192).
فضمنوا استعاذتهم بربهم الرحيم بإظهار سوء حال أهل النار، وهلاكهم وخزيهم، وفضيحتهم في هذا اليوم، وهو متضمن للتعوذ من النار ومصير أهلها، وتأكيد تحقق هذا المصير، وأنه لا مفر منه، ولا ناصر ومخلص لهم من هذا الخزي والعذاب المقيم، فقالوا: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).
فاللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرْفَةَ عيْنٍ، وأصلِحْ لنا شأننا كلَّهُ، لا إله إلا أنت.