الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 16 أغسطس 2023 - 29 محرم 1445هـ

الكبائر (26) الإسراف والتبذير (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- الإسراف والتبذير من الذنوب المفسدة للدنيا والدين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، ومن الكبائر الموبقات: قال الله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27).

المقصود بالإسراف والتبذير:

- قال الراغبُ الأصفهاني: "السَّرَفُ: تَجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الإنسانُ، وإنْ كان ذلكَ في الإنفاقِ أشهر"، وقال الشافعيُّ: "التبذيرُ: إنفاقُ الْمَالِ في غيرِ حَقِّه"، والفرقُ بينهما كما قال الجرجاني: "الإسرافُ: ‌صرفُ ‌الشيءِ ‌فيما ‌ينبغي زائدًا على ما ينبغي؛ بخلاف التبذير؛ فإنه صرفُ الشيءِ فيما لا ينبغي".

- من صور الإسراف: أن يقوم الشخص بملء طبقه من مائدة الطعام حتى لو لم يكن محتاجًا لذلك، فهذا يعني أنه أسرف في شيء مباح -أي: الطعام-؛ لأنه قد يأكل فقط نصف هذا الطبق والباقي سيرميه - الإسراف في الماء والكهرباء، والولائم وتجهيزات الزواج وحفلاته - استبدال الهواتف والأثاثات والسيارات دون حاجة - مواقع إلكترونية للأرقام المميزة للهواتف، والسيارات، ونحوها بمبالغ خيالية!

- من صور التبذير: مَن يشتري شيئًا مِن المحرمات (السجائر - شراء الكلاب والطيور بمبالغ كبيرة - صفقات لاعبي الكرة بأرقام قياسية - حفلة الكريسماس في دولة خليجية تعدل ميزانية دولة إفريقية!). "ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا".

- في نفس الوقت... كم من الفقراء يموتون من الجوع! وكم من المشاريع الخيرية والدعوية وغيرها تعطلت؛ لعدم مَن ينفق عليها! وكم... وكم...!: قال -تعالى-: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين: 4-6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

حكم الإسراف والتبذير:

- حرَّم الله الإسراف؛ لما له مِن أضرار على الإنسان في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (الإسراء: 29)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) (متفق عليه).

- وشَبَّه الله المسرفين بالشياطين تنفيرًا من فعلهم: قال - -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27)، قال ابن كثير: "أي: في التبذير والسفه، وترك طاعة الله".

- وجعل المسرفين المبذرين من أبغض الناس إليه: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).

- وجعل عليهم في الدنيا أحكامًا استثنائية بسبب إسرافهم -الحجر-: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء: 5).

الآثار والعواقب السيئة للإسراف:

1- الإسراف وحده سبب للإبعاد عن الله؛ لعدم محبة الله لصاحبه: قال -تعالى-: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141).

2- الإسراف في الأكل يضرُّ بصحة الإنسان، ويجعله كسولًا وربما عاجزًا عن استدراك عمره في الأعمال الصالحة، وفيما ينفعه ويرفعه: قال -تعالى-: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (الأعراف: 31).

3- الإسراف في الإنفاق في غير وجوه الخير، يعرض الإنسان للمساءلة والعتاب أو العقاب يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

4- قد يكون الإسراف والتبذير طريقًا ينتهي بصاحبه إلى تطاول يده للمال الحرام، حتى يلبي لنفسه ما اعتادت عليه من الترف والرفاهية والإسراف في الإنفاق: قال ابن عاشور -رحمه الله-: "والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مذمَّات كثيرة، وينتقل من ملذَّة إلى ملذَّة، فلا يقف عند حدٍّ" (التحرير والتنوير).

5- يؤدي الإسراف والتبذير إلى الكبر والعجب والتفاخر والغرور، وهي من باطن الإثم الذي أمر الله باجتنابه وتركه: قال -تعالى-: )وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 120).

أسبابُ الإسراف والتبذير:

1- الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء من الوعيد على ذلك.

2- التأثُّر بالبيئة، من باب المحاكاة والتشبه؛ لئلا يظهر أنه أقل منهم.

3- الغِنَى بعد الفقرِ -إلا من رحم الله-، وكأنه ناقم على زمان الفقر بالإسراف والتبذير.

4- الغفلة عن الآخرةِ بنسيان نعيمها، فيريد التنعم بكثرة التبذير والإسراف.

5- مُصاحبة المسرفينَ والْمُبذِّرين، فيسايرهم في أحوالهم.

الفرق بين الإسراف والسخاء؟

شبهة: كثيرٌ من المسرفين المبذرين، يخلطون بين السخاء والإسراف، ويجهلون أن السخاء يكون في الحق، والإسراف والتبذير يكون في غير الحق: قال مجاهد: "لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مدًّا في غير حق كان مبذرًا" (تفسير ابن كثير)، (مثال: اشترى مسكنًا واسعًا بدلًا من الضيق - اشترى سيجارة).

- والشرع لا يمنعك من الاستمتاع بمالك بحقه: لما قال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32)، نبَّه قبلها: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ) (رواه النسائي، وابن ماجه واللفظ له، وحسنه الألباني).

- السلف خير مثال في النفقة والاعتدال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لابنه عاصم: "يا بني كُل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبًا حتى تستخلقه، ولا تكن مِن قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم" (تفسير القرطبي)، وقال لجابر بن عبد الله وقد لقيه يحمل بيده لفافة: "ما هذا؟ قال: لحم اشتهيته فاشتريته، فقال: أَوَكلما اشتهيتَ اشتريت؟! ألا تخشى أن تكون من أهل هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف: 20)" (تفسير القرطبي).

قالوا في التحذير من الإسراف:

(أصلحوا أموالكم لنَبْوة الزمان، وجفوة السلطان - مَن أصلح ماله فقد صان الأكرمين: الدِّين، والعِرْض - ما عالَ مقتصدٌ - لا عيلة على مصلحٍ، ولا مال لأخرق - لا جود مع تبذير، ولا بخل مع اقتصادٍ - التدبير يثمر اليسير، والتبذير يبدد الكثير - حسن التدبير مع الكفاف أكفى من الكثير مع الإسراف - إنَّ في إصلاح مالك جمال وجهك، وبقاء عزِّك، وصون عرضك، وسلامة دينك).

خاتمة:

- الإسراف والتبذير من الذنوب المفسدة للدنيا والدِّين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، ومن الكبائر الموبقات: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27).

- خير الأمور الوسط: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67)، قال ابنُ كثير: "أيْ: ‌ليسُوا ‌بمبذِّرِينَ في إنفاقِهِم، فيصرِفُونَ فوقَ الحاجةِ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِم فيُقَصِّرُونَ في حقِّهِم فلا يَكْفُونَهُم، بلْ عَدْلًا خِيارًا، وخيرُ الأُمُورِ أوْسَطُها" (تفسير القرآن الكريم لابن كثير).

فاللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت.