كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)، فيه فوائد:
الثانية: قوله -تعالى-: (آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، دليل على الإيمان بالقدر وقدرة الله على قلوب عباده وعقولهم، وتقليب أفكارهم؛ فإن الله هو الذي آتى إبراهيم حجته على قومه، وليس مجرد تحصيل العبد لأدواتها فقط هو الذي يصل به إلى الحجة، بل الله هو الذي يفهم عبده الحجة ويريه دلالتها، كما قال -تعالى-: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)، فالله خص سليمان بالفهم، وأثنى عليه وعلى داود -صلى الله عليهما وسلم- بالعلم، فالله يقلب قلوب العباد حتى تفهم الحجج، ويمكن الألسنة حتى تنطق بها فتقوم الحجة على القوم الكافرين والظالمين، سواء أفهموها أم لا؛ فقد يطبع الله على عقول قوم وقلوبهم فتسمع الحجج، ولا تفهمها وتتلى عليه الآيات ولا تعيها، والبعض قد يفهمها ثم يتولى وهو معرض، كما قال -تعالى-: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ)؛ رغم سلامة حاسة السمع إلا أن الله لم يسمع القلوب فلم تعقل الحجة، قال -تعالى-: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ . وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
وفائدة هذه المسألة العظيمة: أن العبد لا يجوز له أبدًا أن يغتر بعلمه وحفظه، فالله هو الذي آتاه إياهما، وليس هو الذي ثبت العلم في قلبه، وفتح له أبواب الفهم، فإياك أن تفخر بعلمك وحفظك، أو بقدرتك على الإفحام والمناظرة، والاستعراض للحجج، فإن مرض العجب من أعظم الأمراض المهلكة وهو علامة على الكبر الذي مثقال ذرة منه في القلب تمنع دخول الجنة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) (رواه مسلم)، ولو تفكر الإنسان في حقيقة عقله؛ لعلم أنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، كما قال -تعالى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛ فكيف يدعي لنفسه أنه مصدر الذكاء والفكر، وهو موهوب له من العدم؛ وهبه الله له من فضله، وآتاه العقل والفهم، وحواس الإدراك التي بها يحصل أدوات العلم، وحرم غيره من ذلك حين لم يكن له ولا لغيره قدرة على شيء من ذلك، ولا علم بشيء من ذلك؟!
وأعظم النعم التي ينعم الله بها على عباده هي نعمة الفهم في الدين، ثم العمل والاستجابة لأمر الله -عز وجل-، وحب الإيمان والطاعة، وكراهية الكفر والفسوق والعصيان، (لَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ . فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
الفائدة الثالثة:
قوله -تعالى-: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ): فيه إثبات أن الله هو الخافض الرافع.
وفيه؛ إثبات مشيئته -عز وجل- في خفض من يشاء ورفع من يشاء.
وفيه: إثبات أن الرفع الحقيقي هو أن يؤتي الله عز وجل عبده حجته بآياته؛ روى مسلم وابن ماجه بإسناد صحيح: أن نافع بن عبد الحارث، لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة (أي: أميرًا عليها)، فقال: من استعملت على أهل الوادي (أي: في فترة غيابك)؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل-، عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين".
فبالقرآن وبالعلم وبما فيه من الفرائض يرفع الله أقوامًا كانوا قبله موضوعين ناقصين، فجبر الله كسرهم ونقصهم بالقرآن والعلم، ودرجات الآخرة في الرفعة أعظم من درجات الدنيا، (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21).
الفائدة الرابعة:
قوله -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فيه: إثبات صفة العلم وصفة الحكمة لله -سبحانه وتعالى-، وهما صفتان متلازمتان، خلافًا لمن أنكر الحكمة من الأشاعرة، وغيرهم، وزعم أنها -بجهله-: صفة نقص! ونفى أن يكون الله يفعل شيئًا لشيء، أو يقدر شيئًا لشيء، أو يشرع شيئًا لشيء، مع أن القرآن مليء بإثبات ذلك في عشرات أو مئات الآيات.
ومعنى اسم الله الحكيم يشمل معنيين:
معنى الإحكام: فهو المحكم -سبحانه- لكل شيء خلقه، وقد أتقنه غاية الإتقان: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88).
ومن هذا أيضًا: إحكامه آياته -سبحانه وتعالى-، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1).
والمعنى الثاني: معنى الحكمة فيما خلق، وفيما شرع، فالله -عز وجل- وضع كل شيء في موضعه؛ وضع الحجة العالية والهداية والمنزلة الرفيعة، والدرجات والطاعة والشكر لمن تناسبه، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53).
وهو -سبحانه وتعالى- وضع الظلم والكفر والنفاق في مواضعها، وهو أعلم بالظالمين، فحكمته بعلمه؛ وعلمه بحكمته؛ فهما صفتان متلازمتان من صفات الكمال، وكذلك شرع الشرائع للحكم، وقدر مصالح العباد فيما شرعه لهم من شرائع، وله الحكمة فيما قسم من الأرزاق المادية الدنيوية والدينية الشرعية، وهو -عز وجل- خلق أرضًا طيبة وأرضًا خبيثة، ووضع البذر الطيب الذي أنبت الشجر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث الذي أنبت الشجر الخبيث في الأرض الخبيثة؛ بعلمه وحكمته.